هيلاري مانتل وحياتها المدهشة (1/3)

16 مارس 2021
+ الخط -

بدلاً من أن تقرأ كتاباً ساذجاً في التنمية الذاتية يبيع لك عدداً من النصائح المعلبة التي ربما لن تنفعك ببصلة، لماذا لا تجرب أن تقرأ هذه السطور التي أحدثك فيها عن الأديبة البريطانية هيلاري مانتل ومشوار حياتها الملهم والمحرض على أن يُحوِّل الإنسان معاناته وقرفه من الحياة، إلى عمل دؤوب يحقق به إنجازاً ربما جعل حياته نموذجاً يحتذى ويثير الإعجاب أو الغبطة أو الحسد، حسب ذوقك وموقفك من الحياة.

إذا كنت لم تسمع من قبل عن إنجازات هيلاري مانتل الأدبية، فيكفي أن تعرف أنها استطاعت أن تكسب جائزة البوكر الأدبية رفيعة الشأن مرتين، الأولى في عام 2009 عن رواية (قصر الذئب Wolf Hall) والثانية في عام 2012 عن رواية (ارفعوا الأجساد  Bringing up the bodies) لتكون الكاتبة الأولى التي تحصل على جائزة البوكر مرتين، وتكون أول كاتب يحصل على جائزة البوكر عن الجزء الأول والجزء الثاني من عمل روائي واحد، صدر قبل عام جزءه الثالث (المرآة والضوء)، لتكتمل ثلاثيتها الروائية التي تتناول حياة رجل الدولة الشهير توماس كرومويل، الذي شغل منصب المستشار الأول للملك هنري الثامن، وعاصر معه عدداً من الأزمات السياسية والشخصية، على رأسها شعور الملك بأزمة عدم إنجابه لوريث ذكر للعرش، ورغبته في إبطال زواجه من الملكة كاثرين والزواج من آن بولين حتى لو كان ذلك ضد رغبة رجال الدين وعلى رأسهم بابا روما، ومع أن تلك الفترة الحرجة وأبطالها الملتبسين قد صدر عنهم الكثير من الكتب والدراسات والأعمال الفنية والأدبية، إلا أن ذلك لم يحبط من عزيمة هيلاري مانتل وعزمها على كتابة قصة تلك الفترة من جديد، بشكل لم يكن يتوقع الكثيرون أن يحظى بكل تلك الشعبية والجاذبية، منذ بدء نشر الرواية الأولى وحتى الآن.

وبقدر ما كان نجاح الجزئين الأولين من الثلاثية في مبيعات النشر، عاملا مساعدا في الإسراع بتحويلهما إلى مسلسل تلفزيوني وعرض مسرحي مكون من جزئين، بقدر ما تضاعف نجاحهما بعد تلك المشاريع التي دفعت جمهور هيلاري مانتل إلى مشاهدة تلك الأعمال، وجلبت لها ولأعمالها المزيد من القراء في نفس الوقت. كان تحويل الروايتين إلى مسرحيتين هو الأسبق، وقد تبنته فرقة شكسبير الملكية البريطانية الشهيرة، وتم عرض المسرحيتين في لندن بنجاح كبير، لينتقلا في مطلع 2015 إلى نيويورك، ويلقيا نجاحا لا بأس به، برغم أن كل مسرحية يستغرق عرضها حوالي أربع ساعات، تقدم دراما ثقيلة لا تحتوي على مشهيات المسرح المعتادة. أما المعالجة التلفزيونية والمكونة من ست حلقات مدة كل حلقة ساعة وعدة دقائق، فقد عرضت على قناة البي بي سي الثانية البريطانية، وقناة PBS الأميركية في نفس الوقت، من بطولة الممثل الشهير داميان لويس في دور هنري الثامن، ومارك ريلانس في دور توماس كرومويل، وكلير فوي في دور آن بولين.

قبل حصولها على جائزتي البوكر، كان هناك اهتمام نقدي ملحوظ بكتابات هيلاري مانتل التي بلغت ثمانية روايات ومجموعة قصصية وكتاب سيرة ذاتية، وقد بدأ ذلك منذ إصدار روايتها الأولى "كل يوم هو عيد الأم" التي صدرت عام 1985، وقد ساعدها الاهتمام النقدي المتزايد على أن تحصل في عام 1990 على جائزة مقدمة من الجمعية الملكية للأدب، وأخرى من مهرجان شيلتينهام الأدبي عن روايتها "فلاد"، والتي سبقتها روايتان متوسطتا النجاح، من بينهما رواية بعنوان (ثمانية أشهر في شارع غزة)، حكت فيها عن تجربتها في الإقامة في المملكة العربية السعودية، وقد ترجمت الرواية إلى اللغة العربية بعنوان (كوابيس جدة) وصدرت عن دار سطور بترجمة من الدكتورة فاطمة نصر.

استمر بعد ذلك مشوار هيلاري مانتل مع الجوائز، حين حصلت في عام 1992 على جائزة صحيفة صانداي اكسبريس لكتاب العام عن رواية (من أجل مكان أعظم أماناً)، وحصلت في عام 1996 على جائزة هاوثورندن عن روايتها (تجربة في الحب)، وحصلت في عام 2003 على جائزة منظمة مايند الخيرية للصحة العقلية عن كتاب (تسليم الشبح) الذي يروي أجزاء من سيرتها الذاتية، فضلا عن وصولها إلى القائمة القصيرة لجائزة أورانج المخصصة للكتابة النسائية عام 2006 عن رواية (ما وراء الأسوَد)، والتي وصلت أيضا إلى القائمة القصيرة لجائزة كتّاب الكومنولث في نفس العام، لكن انفجار الجوائز الذي أعقب صدور رواية (قصر الذئب) وحصولها على جائزة البوكر، لا زال مستمرا حتى الآن، مترافقا مع تكريمات رسمية وشعبية يضيق المجال عن ذكرها.

بدأت في الكتابة عن الثورة الفرنسية، وإن كانت لم تبدأ في التعامل مع ما كانت تكتبه كرواية، بل ولم تكن تظن أنها ستكتب أيضا، فقد بدأ الأمر بالقراءة المنتظمة عن الثورة الفرنسية

ربما تصف هيلاري مانتل بأنها كاتبة محظوظة ولدت في فمها ملعقة من ذهب، حين ترى ذلك النجاح الفائق، لكنك ستدرك أن ظنك آثم حين تقرأ سيرة حياتها، وتعرف أنها لم تصل إلى هذا النجاح إلا بعد رحلة طويلة من المعاناة الشخصية والأدبية، بدأت منذ الطفولة حين هجر والدها هنري تومبسون الأسرة، بعد أن طلّق والدتها مارجريت، فلم تعد تراه منذ كان لديها من العمر 11 عاما، لترتبط والدتها بجاك مانتل، الذي حملت هيلاري اسمه رسميا وباختيارها بعد ذلك، لتنتقل الأسرة معه من مسقط رأس هيلاري في مدينة جلوسوب إلى مدينة رومايلي بمقاطعة تشيشاير، وقد جعلتها طفولتها العصيبة تفقد إيمانها الديني في سن الثانية عشرة، وقد انطبعت تلك الطفولة بالتأكيد على علاقتها الزوجية فيما بعد بزوجها الجيولوجي جيرالد ماكوين الذي تزوجته وهما في العشرينات من عمريهما، كان ذلك في عام 1974، وقد عاشت معه في بوتسوانا بدءاً من عام 1977 لمدة خمس سنوات في ظروف صعبة للغاية، ومع أنهما كانا يعيشان حياة فقيرة في بريطانيا، إلا أن مقارنتها بحياتهما في بوتسوانا كانت تجعل تلك الحياة غنية جدا، حيث "لا صحف، لا تلفزيون، لا مظاهر للحياة إلا التي تصنعها بنفسك"، وحيث كان زوجها يعمل مع فريق من الجيولوجيين الذين قاموا برسم خرائط مساحية للبلد لأول مرة.

بعد ذلك عاشا ولمدة أربع سنوات في مدينة جدة السعودية حيث عمل زوجها في شركة تعدين، وقد استلهمت بعضا من تجاربها في السعودية في كتابة الرواية التي نشرت في العالم العربي بعنوان (كوابيس جدة)، بالإضافة إلى مقال طويل نشرته في صحيفة الغارديان بتاريخ 20 فبراير 2010، روت فيه كيف أكملت في "شقة تشبه التابوت بسبب حرمانها الدائم من الضوء" كتابة روايتها الأولى، وكيف تلقت في تلك الشقة أيضا رسالة من ناشر لندني يقبل فيه نشر الرواية، وبعد أن انتقلا منه إلى بيت تصفه بأنه "البيت الذي توجد فيه النافذة خلف السرير"، كتبت روايتها الثانية، وقبل أن ينتقل الزوجان إلى بيت رابع، بدأت تحاول كتابة روايتها عن جدة، التي حاولت الاعتماد فيها على مدونات يومية كانت تكتب فيه وقائع حياتها هناك، لكنها لم تستطع إلا بعد أن غادرت جدة التي وصفت مغادرتها لها بأنها كانت "أسعد يوم في حياتها".

عاشت هيلاري مانتل معاناة صعبة للغاية مع مرض نادر أصابها في الرحم، وقد عانت من آلامه منذ بداية العشرينيات، لكنها لم تكتشف حقيقته إلا بالصدفة، حيث بدأت أعراضه بإرهاق شديد وآلام عصبية حادة، جعل الأطباء يشخصونها في البداية كأنيميا حادة، وعندما لم تستجب لأدوية الأنيميا، تم تشخيص المرض بوصفه مرضا نفسيا، وهو ما جعلها تداوم التردد على أطباء الأمراض النفسية والعصبية، وتصبح زبونة مستديمة للعقاقير المضادة للذهان، والتي كانت تسبب لها أعراضا مرهقة جدا، حتى أنها كانت ترى خيالات دائمة بأنها تقوم بقتل الناس بالسكاكين، وكانت تضطر لإخفاء ذلك عن زوجها، وبعد سلسلة طويلة من الآلام والحياة الكابوسية الدائمة، قررت أن تتوقف عن أخذ الأدوية، فتخلصت من الكوابيس الليلية والخيالات النهارية المرهقة، لكنها لم تتخلص من الألم، وبالصدفة وخلال وجودها في بوتسوانا، قررت أن تذهب إلى مكتبة الجامعة في بوتسوانا، لتقرأ الكتب الطبية وتبحث عن تشخيص لحالتها، فوجدت تشخيصا لمرضها يشير إلى إنها ربما كانت تعاني من عيب خلقي يجعل بطانة الرحم لديها مصابة باضطرابات حادة، بحيث تنزف خلايا بطانة الرحم ويتراكم نزيفها داخل منطقة الحوض، فيسبب آلاما رهيبة في الأعصاب.

وحين عادت هيلاري إلى لندن، تأكدت من ذلك التشخيص، وأجرت جراحة أزالت فيها الرحم لتصبح غير قادرة على إنجاب الأطفال، ومع أن ذلك أحزنها إلا أنها كانت ممتنة لتخلصها من الآلام الرهيبة التي كانت تعاني منها، لكن استمرار علاجها بالمنشطات جعلها تتعرض لزيادة كبيرة في الوزن، ويتغير مظهرها العام بشكل كامل، وهو ما سبب لها كثيرا من المضايقات الاجتماعية التي جعلت نفسيتها تتأثر كثيرا، وبرغم أنها لم تكن راغبة في الإنجاب على مدى السبع سنوات التي سبقت إزالتها للرحم، لكنها كانت تأمل أنها ستغير موقفها في يوم من الأيام، وفي ظل ضغوط نفسية شديدة أعقبت كل ما جرى لها من تجارب، انفصلت عن زوجها بعد عودتهما من بتسوانا، وإن كانا قد عاودا الزواج بعد ذلك بعامين، وسافرت معه إلى جدة، وتواصلت حياتهما سويا، وتولى بعد عودته إلى بريطانيا إدارة أعمالها الأدبية.

على عكس المتوقع، لم تكن هيلاري تحلم بأن تكون كاتبة منذ البداية، بعد تخرجها من الجامعة عملت أخصائية اجتماعية في مستشفى للمسنين في ستوكبورت، براتب يبلغ حوالي ألف ومائة جنيه استرليني سنويا، كان مبنى المستشفى الذي تعمل به في السابق مبنى لإصلاحية، وكان بعض المرضى من المسنين الذين تأثرت ذاكرتهم وأصبحوا عرضة لاختلاط الأزمنة، يعتقدون أنهم نزلاء في إصلاحية وليس في مستشفى، في ذكرياتها عن تلك الفترة تقول أنها كانت تحاول هي ومعظم الموظفين فعل شيء من أجل المرضى، لكن نقص الموارد كان يقف أمام تحقيق محاولاتهم لجدوى، وما تحتفظ به ذاكرتها من تلك الأيام، كما قالت لصحيفة (التلجراف) البريطانية هو "خليط من السخط والحزن والشعور بالعجز".

بدأت رحلة هيلاري مانتل مع الكتابة عام 1975، وهي في سن الثالثة والعشرين، والغريب أنه كما بدأت شهرتها ونجاحها مع الرواية التاريخية، فقد بدأت أحلامها في الكتابة مع التاريخ أيضا، حيث بدأت في الكتابة عن الثورة الفرنسية، وإن كانت لم تبدأ في التعامل مع ما كانت تكتبه كرواية، بل ولم تكن تظن أنها ستكتب أيضا، فقد بدأ الأمر بالقراءة المنتظمة عن الثورة الفرنسية، للهروب من الشعور بالملل من عملها كبائعة للفساتين في متجر للألبسة، كان قد طفح بها الكيل من عملها في المستشفى ثم من عملها كبائعة للفساتين، ولأنه لم يكن لديها مال لكي تنهي تدريبا قانونيا يؤهلها للعمل في المحاماة، قررت أن تدفن همها في القراءة، ولأنها كانت تفكر في دراسة التاريخ عندما كانت طالبة جامعية، فقد بدأت في استعارة كتب عن الثورة الفرنسية من المكتبة العامة، ومع توالي الكتب واحدا تلو الآخر، بدأت تدون العديد من الملاحظات، وبعد أن قامت بذلك لفترة طويلة، سألت نفسها: ماذا أفعل، وجاء الجواب: أنا أكتب كتابا.

وكما تقول هيلاري للصحفية لاريسّا ماكفاركهر التي نشرت عنها "بورتريه" شديد الجمال في مجلة (النيويوركر) الشهيرة، بتاريخ 12 أكتوبر 2012، فقد لاحظت أن زميلاتها الجامعيات اللواتي درسن الأدب والفنون، انتهى بهن الحال كمدرسات، وبرغم أنها تعرف أن العالم يحتاج إلى مدرسات جيدات، إلا أن دائرة تحول الفتيات الذكيات إلى مدرسات لإنتاج المزيد من الفتيات الذكيات اللواتي يعملن كمدرسات، بدت لها محبطة بعض الشيء، وكانت حين تسمع الناس يقولون أن التدريس مهنة يمكن الاعتماد عليها، تعتبر أن ذلك يعني أنه "عندما يهجرك زوجك يمكن أن تنفقي على نفسك من مرتبك كمدرسة". لم يبد لها ذلك محرضا أو ملهما، ولأنها لم تكن دارسة للتاريخ ولا لطريقة كتابته، تصورت أنها حين تكتب كتابا تاريخيا، لا بد أن يكون في قالب روائي، ولأنها لا تعرف كيف تكتب الرواية، فقد شعرت وهي تكتب بالحزن، لأنها لا تملك سوى أن تعتمد على نفسها في كتابة ما تفكر به، بعيداً عن أية قواعد أو محددات أو إرشادات، وقد كان ذلك في الحقيقة ما أوصلها إلى طريق المجد دون أن تدري.

...

نكمل الحكاية غداً بإذن الله

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.