هل يصمد الراديو أمام البودكاست؟
عندما ابتدأ الإرسال الإذاعي، تحديدا قبل مئة وثلاثة أعوام، لم يكن يخطر ببال أحد أنّ محطات الراديو ستتكاثر بهذا الحجم، وأنها ستتلقى الدعم السخي مقابل الإعلانات وغيرها. وآنذاك، تساءل الكثيرون إن كان، أي الراديو، ومن بعده التلفاز، سيسحب البساط من الصحافة الرصينة أم لا.
وبعد أن عاش الإعلام صورته الجميلة بشكل متناغم مع المكتوب والمسموع والمرئي لعقود طويلة، جاءت ثورة الإنترنت وقلبت جميع المقاييس الإعلامية التي اعتدنا عليها، وقامت بتحوّلات عميقة، أخذتنا إلى أماكن لم نكن نتوّقعها أو نتنبأ بها ولا مجال لذكرها هنا. إلا أنّ ما يمكن قوله بهذا الصدد، أنّ الراديو لم يعد أحادياً، حيث ظهر البودكاست ليضع نفسه في مواجهة أمام الاذاعة وأثيرها، وكجميع المنصات التفاعلية، يختار فيها الناس احتياجاتهم ويشاركون، في الوقت ذاته، في الرأي والبث، وتستطيع بموجبه وسائل الإعلام أن تقدم لكل شخص ما يريد وتستمع لكلّ شخص أيضاً، وتُمكن إتاحة مساحات لأيّ شخص لإسماع صوته. كما بدأت هذه المنصات تساعد المجتمع على أن يفهم القوى التي تشكل عالم اليوم، وتساهم في نشر الأفكار التي تساعد في تحقيق التحوّل في المجتمعات.
ومع احتفال العالم بيوم الراديو (13 فبراير/ شباط)، يطرح السؤال عينه كلّ مرة: هل ستبقى الإذاعة وسيطا إعلاميا مهما؟ وهل سيظل لها دور في عصر وسائط التواصل الاجتماعي التي أخذت تشغل اهتمام معظم الناس هذه الأيام؟ وهل لا يزال هناك ولاء منقطع لمحطات إذاعية معينة، ولا زلنا نعتمد عليها كمصداقية للأخبار؟
يبدو أن هذا الزمن قد انتهى، وتشكّلت حاجة ملحة لإعادة تنظيم القيم والاتجاهات وفق مؤثرات وفرص جديدة تملكها أطراف فاعلة. وقد تنبهت يونسكو للتغيرات التي طاولت الراديو كغيرها من الوسائل الإعلامية الأخرى، واختارت شعارا رفعته قبل خمس سنوات في يوم الإذاعة العالمي: "أنتم الإذاعة". وربما كان دافع يونسكو من هذا الشعار هو التوّسع الكبير لاستخدام (البودكاست) أي البث الصوتي، الذي خطف الشباب من الإذاعة فأصبحوا أقل ارتباطًا بها، بينما لا تزال الأجيال السابقة متأثرة بالإذاعة التي بقيت في وجدانها وذاكرتها.
يتسابق كلا من البودكاست والإذاعة في جذب المستمعين، وكلّ منهما يحتفظ بميزات دون الآخر
وفيما يقدم البودكاست للمستمع ما يناسب ذائقته، لا يزال الراديو يفرض ما يقدمه من خلال خطة برامجية خاصة به، ويتحكم في أوقات بث برامج معينة تستهدف شريحة من المستمعين، في وقت أصبح فيه البودكاست يرسل إشعارات للمشتركين بوجود محتوى جديد، وهو ما تفتقر إليه محطات الراديو.
ويتسابق كل من البودكاست والإذاعة في جذب المستمعين، وكلّ منهما يحتفظ بميزات دون الآخر، فالراديو، مثلا، لا يزال يمتلك المكتبة الصوتية الأصلية، وحصرية بث بعض الأغاني، وبث المسلسلات الإذاعية، ونقل الأخبار والمباريات ومناقشة الأحداث.
ولا نفاضل هنا بين هذا أو ذاك، ولكن هل سيصمد الراديو أمام جمهوره المخلص، ولا يخذل من اعتادوا على الاستماع إلى أثير الإذاعة واللحاق بركب التقنيات، ويضخ الحياة فيه، ويتجاوب مع احتياجات العصر، في وقت أصبح احترام المعايير الأساسية للصحافة الأخلاقية أمرًاً صعبًا في العصر الرقمي المتغيّر وسريع الإيقاع؟ وهل سيتعهد المستمعون بأن يكونوا على اطلاع واسع ودراية بحيث يكتشفون المحتوى المفيد لهم ويستهلكونه ويستجيبون له بشكل جدي؟