هل يصدِّقُ البشرُ الحقائق؟
لنسلِّم بدايةً، بأنّ الحقائق التي سيناقشها المقال هي حقائق مستقلّة عن الحالات الماديّة والطبيعية، أي أنها ليست حقائقَ عارية (brute facts)؛ إنما هي حقائقُ تتصلُ بالذاتِ المدركة والتصوّرات الذهنيّة.
إنّ العقلَ البشريّ بطبيعته معنيٌّ برؤيةِ الحقيقة، إلّا أنّ هناك تأثيراتٍ أو عقبات تتشكّلُ في الذهنِ؛ قد تمنعُ اكْتشافَ الحقيقة أو معرفتَها. يقول المفكِّر الفرنسيّ، ميشيل فوكو: "من الممكن أن تكون هذه العقبات مرتبطةً بشروط اقتصاديّة أو اجتماعيّة أو مرتبطة بالعادات والتقاليد أو الأساطير أو المعتقدات الدينيّة...". فلو اعتبرنا أنّ تلكم العقباتِ التي تحدَّث عنها فوكو هي ما يُمكن الاصطلاحُ عليها بالتأطير (framing) عند اللسانيِّ الأميركيّ جورج لايكوف؛ بوصفه بنيةً ذهنيةً؛ يحددُ طبيعة التصوّرات الذهنيّة لدى الأفراد، وعلاقته الصّعبة مع الواقع، إذ لا يمكننا بسهولة أن نعرضَ الحقائق (الوقائع) أمام الناس لإقناعهم بصحتها؛ فالتأطيرُ مرتبطٌ بالبِنى التصوريّة (conceptual structures) التي تمكننا من رؤية العالم، ومن ثمَّ ترتبط هذه البنى بعُدّة أحيائيّة (مشتبكات عصبيّة (synapses)) في الدماغ، فيصعبُ اقتلاعُها، حتّى بعد معرفة الحقائق والتّثبت منها. وعليه؛ فإنّه لَمن الصعب أن تواجهَ البشر بالحقائق، سيدّعي بعضهم أنّ "الوقائع ستحرّرك"، وأنّك عندما ترى الحقيقة ستخرجُ عن تصوّرك القديم إلى تصوِّر آخر، حيثُ سيستدعي الأخيرُ بالضرورة إطارا جديدا؛ حيث يقولُ الفيلسوف الاسكتلنديّ ديفيد هيوم: "الحديث عن حقائق جديدة يستدعي لغةً جديدة"، وهذا ما يُوصلنا إلى ما أسماهُ لايكوف إعادة التأطير (reframing)؛ أي أنّ الكيفيّة التي نرى بها العالم ستتغيّر وَفْقا لرؤيتنا للحقائق، وذلك باستخدامنا لغةً جديدةً، "فاللغةُ تنشِّط الأطر".
إلّا أنَّ هذا التنشيط لا يكون بريئاً؛ فباللغة نحنُ نؤوِّل ما نراه دونَ أن ندركَ الحقائق، وبحَسبِ العلمِ المعرفيِّ؛ فالتأطيرُ التصوّريّ يكون في معظمِه "لا واعيا" وبالتالي؛ سينشأ عن ذلك تشويهٌ للواقع.
عموما؛ يقولُ الفيلسوف النمساويّ لودفيغ فِتغنشتاين: "من يدركُ أشياءَ مختلفةً؛ سيعيشُ بشكل مختلف، والذي يعيشُ بشكل مختلف سيفكّر بشكل مختلف، والذي يفكّر بشكل مُختلف سيستخدِمُ أيضا لغةً مختلفة؛ فحدودُ جهازِ إدراكنا الحسيّ وحدود لُغتنا هي حدودُ عالمنا".
وبالعودةِ إلى لايكوف، ينظرُ الشعبُ الأميركي إلى حرب العراق على أنها عمليّة إنقاذٍ للشعب العراقيِّ والدول المجاورة له؛ لكنّها في الحقيقة، حربٌ تهدّد أمن الشعب العراقي! أضف إلى ذلك؛ أنّ وسائل الإعلام الأميركيّة كانت تُؤطِّرُ الحرب العراقيّة؛ بما يتناسبُ مع مصالح الأولى، إذ تقولُ مشاعل الهاجري في مقدّمة ترجمتها لكتاب نظام التفاهة لآلان دونو: "فأن تكون لك ترسانة من المصطلحات الفلسفيّة واللغوية والقانونيّة؛ أمرٌ مفيد جدا، بل إنه قد يسهلُ لك القيام بتصرفات هي من حيث المبدأ لا أخلاقيّة (في اللغة العسكريّة مثلا، لا يستخدمون لفظ "قتل" وإنما يتحدثون دائما عن "تصفية" العدو)".
العقل البشريّ بطبيعته معنيٌّ برؤيةِ الحقيقة، إلّا أنّ هناك تأثيراتٍ أو عقبات تتشكّلُ في الذهنِ؛ قد تمنعُ اكْتشافَ الحقيقة أو معرفتَها
لنأتِ أيضاً إلى الاستشراق عند إدوَرْد سعيد، فقدْ تحدّثَ مرّةً عن تقييدات "الجغرافيا المتخيّلة" في مفهوم الاستشراق؛ حيثُ أجرى الباحثُ الفلسطينيّ أحمد خولي استقراءاتِه حولَ منهجِ سعيدٍ؛ للتمييز بين: الشرق الحقيقي بوصفه "واقعا مؤسساتيّا داخليا له ثقافته وأممه وتقاليده، وما ينتجه الأفراد من تصوّرات ذهنيّة مشتركة في ما بينهم"، والشرق المتخيّل "بوصفه إنتاجا خطابيا استشراقيا تضعه كتابات المستشرقين وتأويلاتهم عن الشرق"، فكلا الشرقين "يرتبطُ بأفكار الأفراد وتصوّراتهم؛ أي أنهما ذاتيّان من النّاحية الأنطولوجية (الوجودية)".
إنّ الاستقراء الذي أجراه الباحثُ؛ يجعلنا نفترضُ أنّ للشرق إطاريْن مختلفيْن؛ بطبيعة الحال، إنّ رؤية سعيد للشرق لا تتوافق مع آراء المستشرقين؛ فسعيد يرى الشرق "حقيقيا" بما يتناسب مع تصوّره الذهني، فعمل على نقد الشرق "المتخيل" الذي صنعه الغرب، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، قد يرى مستشرقٌ الشرق ويعرفُ حقائقه، لكنّه لا يعترفُ بوجودها، لأنه إن فعل؛ سيكسرُ الهُوية الأوروبيّة التي تمثّلت فوقيّتها في ذهنه، وهذا صعبٌ للغاية، وعليه؛ يلجأُ ذاك المستشرق إلى رفضِ الحقيقة المتمثلة في الشّرق، مُختلقاً صورةً خياليّة عنه.
بذا؛ نرى أنّ الحقائق ليست واحدة عند جميع الأفراد، وليست صادقة دائماً، كما أنها ليست مُطلقة، فالحقائق عموما، تَتَقَوْلب مع الأطر، لتصبح الأخيرة سلطويّةً، مسبّبةً صراعاتٍ لا متناهية مع الواقع، فنحنُ نطلقُ أحكامنا ووجهاتِ نظرنا من خلال بِنياتِنا التصوّريّة التي نرى بها العالم.