هل تخرج نظرية الجندر من مربع الضحية؟
لقد نجحت نظرية الجندر في نقد أصل البنى الاجتماعية والسياسية على مستوى مايكروفيزيائي، لتتعدّى ذلك تدريجياً إلى نقد النظام العالمي الذي يعيد إنتاج سياسات الإخضاع. وإذا كان لا بدّ من نقد نظرية الجندر، يجب أن يكون نقداً يستحق الوقوف عنده، وهو في مضمون النظرية التي تدور حول نفسها، لكونها تكتسب الروح الماركسية، بمعنى أنها نظرية تاريخانية تستطيع التنبؤ بالمستقبل، والتاريخانية تعني أنّها قابلة للانتقال والتطوّر حسب الظروف التاريخية، فتكون النظرية ذات سلطة معرفية يتورّط فيها الكثير من المهتمين والمطوّرين عليها.
نظرية الجندر لا تستوقفني فقط، بل تثير شهيتي لتفكيكها، والتمحيص في سيرورتها وتطبيقاتها على أرض الواقع، فهي تطرح نفسها وكأنّها لا بديل لها، وهو ما يستدعي الشكّ في ما ورائيات النظرية من ناحية القوة التي تكتسبها من جذورها في مدرسة فرانكفورت النقدية.
وللتوضيح، إنّ مدرسة فرانكفورت من المؤسسات الفلسفية المعرفية التي لعبت دوراً مهماً في السياق النقدي الأوروبي. ومع أنّ ماركس حاول تحييد نظريته عن نقد الرأسمالية في طرحه عن الاغتراب وفائض القيمة، وحاول أن ينأى بالنظرية عن الروح اليورومركزانية التي كانت سكة مهمة في الإنتاج المعرفي اليورومركزي، وقد كان من روّاد هذا الإنتاج الفيلسوف الألماني، فريدريك هيغل، الذي ألهم ماركس بالمادية الجدلية.
وبالعودة إلى النظرية النسوية، أو نظرية الجندر، وهما اصطلاحان مهمان في سياق واحد، ويقترن بعضهما ببعض، ولأنّ الربط بين الماركسية والنسوية ربط فرض نفسه من توجهات الفلاسفة الماركسيين النسويين في فرنسا وألمانيا، علماً أنّ الفرنسيين سبّاقون في خرق الكلاسيكيات وميالون إلى الإبداع، أما الألمانيون فيحبون الحفاظ على الروح الكلاسيكية وفحص كلّ ما هو جديد ومختلف عن المعرفة الأساسية التي وضعها هيغل.
لذا، تجد نفسك أمام الفلسفة الألمانية المحدَّثة في قطب، وأما مع الفلسفة الفرنسية ومدارسها ما بعد الحداثية، فتجد نفسك قابعاً في قطب آخر من هذا العالم، حيث يغلب على الفلسفة الفرنسية التشكيك المفرط في الكون والفوضى الملوّنة من الأفكار والطروحات الجريئة جداً، وبصوت عالٍ. أما الهيغلية الألمانية، فتسعى للاستقرار والوصول إلى جدليات مادية محسومة ومترجمة على أرض الواقع في الاقتصاد والمجتمع الألماني.
هل نظرية الجندر وليدة الحقل الأخلاقي الجمالي الفلسفي، أم أنّها فلسفة وجودية؟ هل هي متتالية من الأفكار العدمية؟ أم أنها فكر جوهراني؟
لذا أرى أنّ في نظرية الجندر محاولات متجاذبة في انتزاعها من بين الأيادي، وإن كان الهدف منها تحرّرياً بحتاً، لذا أتساءل بعد هذا الجدل: هل نظرية الجندر وليدة الحقل الأخلاقي الجمالي الفلسفي، أم أنّها فلسفة وجودية؟ هل هي متتالية من الأفكار العدمية؟ أم أنها فكر جوهراني؟
إنّ تفكيك نظرية الجندر لا يعني طرح بديل لها، وربّما تفكيكها سيخلق بدائل نظرية وفلسفية جديدة تفتح الأبواب الموصدة على أشكال التمييز الممارس ضد المرأة والرجل على حدّ سواء، ولا يزال في الطرح النظري إشارات توحي بوجود ضحايا في هذا العالم، وهي ناتجة من أنظمة اجتماعية محلية، وأنظمة سياسية اقتصادية عالمية حسب تفسير هذه النظرية، والمطلوب هو الوصول إلى المساواة الجندرية حسب الحملات الاجتماعية في كلّ العالم التي تتبنى هذه النظرية في نشاطاتها الهادفة إلى التغيير الاجتماعي المراعي لمبادئ إنسانية متضمنة في المواثيق والاتفاقيات العالمية لحقوق الإنسان، التي تحتمي بها الدول المستعمِرة، وهي نفسها الدول التي تتبنّى الفكر النسوي في مساحات معينة، وتتركه في مساحات أخرى لتشرعن ممارساتها الاستعمارية، وإشغال المقهورين/ات بقضايا عالقة في الخطابات المبطّنة، وبين أصحاب القرار الذين لا يملكون قراراً أصلاً، بسبب هرمية السلطة والإخضاع الذكوري العالمي.
وحين نظل نردّد أنّ النساء ضحايا للذكورية، ستكون لعبة الضحية الاحتماء خلف هذه النظرة لذاتها، من دون إحداث أيّ تغيير جذري ملموس، سوى بعض التغييرات المرضية للحواس، لكن: هل تكفي تلك الإرضاءات التي وصلنا بها في مجتمعاتنا من ناحية المساواة الاقتصادية والاجتماعية، في بعض المساحات من حياتنا؟
لا أظن أنّ تحقيق المساواة في الأجور كمثال هو كافٍ، إنّما أرى أنّ الكثير من مظاهر التغيير لإسكات الحركة النسوية التي تنتشر في كلّ الميادين، هي صحوة الوعي من تاريخٍ طويلٍ ومريرٍ من الاضطهاد والتمييز الممارسين بناءً على النوع الاجتماعي وأسس أخرى ذات علاقة بالانتهاكات الممارسة ضدّ الإنسانية ككلّ، لأنّ النظرة الجندرية، وحدها، تبقى قاصرة، ويجب ربطها بكلّ مجالات الحياة التي ينتشر فيها الاضطهاد الإنساني. أي هل يمكن لنظرية الجندر أن توسّع دائرتها، وتكون ذات سلطة على السلطة؟ هذا إن أخذنا بالاعتبار أنّ هناك صراعاً عصرياً ينشب بين واقع الجندر والنظام الرأسمالي العالمي.