هل الآخر مفتاح وجودنا؟
يقول سارتر إنّ الآخر "يحمل مفتاح وجودك". والفلسفة بطبيعتها لا تنتهي في أيّ من مقارباتها وأطروحاتها ومقولاتها إلى نتائج يقينيّة. ولهذا، فإنّ السؤال عن سبب قوّة هذه المقولة، ومن ثمّ تأويلها، أمر يستحق التأمل والبحث.
تختلف الطرق التي يغيّر بها الآخرون عوالمنا، ولكن كما هو الحال دائمًا فإننا لا نستطيع تجنّب أي شكل من أشكال العلاقات مع الآخرين. فهل نحن محكومون دائماً بعلاقات صراعية مع الآخرين؟ وهل هذه العلاقة متضاربة بطبيعتها، في الوقت الذي نريد فيه أن نكون مسيطرين؟ وكيف يمكن أن نحارب هذا الواقع؟
نحن دائمًا نحاول السيطرة على نظرة الآخر لنا، لكنّنا لا نستطيع ذلك بشكل كامل، فالعالم البشري يبدو وكأنّه حلقة من الصراع المستمر الذي لا نستطيع أن نخرج أنفسنا منه أبدًا.
لكلٍّ منا جحيمه الخاص، والذي تشكّل ويتشكّل من خلال وجود الآخرين في حياتنا. فالآخرون ما داموا جزءًا من حياتنا فهم مساهمون في تشكيل وتصميم جحيمنا، فكلّ إنسان على ظهر البسيطة هو "أنا" بالنسبة لذاته، و"آخر" بالنسبة لغيره. وعليه، فإنّ إشكاليّة ضرورة معرفة الآخر والتعامل الإنسانيّ معه مهما كانت عواقبها، سواء أكان هذا الآخر جحيماً أم جنّة، يجعل منها موضوعاً دائماً للبحث والدراسة والتطوّر والانفتاح والسجال الفكر- فلسفيّ، كلّما تطوّرت التيارات الفلسفيّة المختلفة استجابة لتطوّر العلوم والمعارف في المجالات الإنسانيّة كافّة.
هناك نسبة كبيرة من الناس في العالم تعيش في الجحيم لأنّها تعتمد كثيراً على رأي الآخرين
إنّ مقولة سارتر تحتاج مزيداً من التأمّل والإدراك. فهو كان يتحرّى الجانب الفكريّ الفلسفيّ للتعبير عن رؤيته، وكان لفلسفته الوجودية تأثيرٌ كبيرٌ في أوروبا، وظلَّ مخلصاً لفلسفته وأفكاره، لأنَّه في الحقيقة الحياة والفلسفة بالنسبة له شيء واحد.
حاول سارتر كثيرًا أن يُزيلَ سوءَ الفهم عن المقولة الشهيرة "الآخرون هُم الجحيم"، وكتب أنَّ الآخرين قد يصبحون جحيمًا عندما تسوءُ علاقتُنا بهم، وأكدّ أنَّ للآخرين تأثيرًا كبيرًا في حياتنا وفي صياغة وجودنا، عكس ما أبرزته المقولة من معنى مخالفٍ ومختلفٍ.
بالنسبة له نظرة الآخر تسمح لي بإنجاز معنى الذاتية حول نفسي. فسارتر يؤكد على أنّ الذات يمكن فقط تصوّرها عبر وجود الآخرين، حيث أنّه قبل وجود الآخرين لا معنى لمفهوم الذات. وبدون الآخر أنا لا أستطيع الهروب من تجربتي ومنظوري الموضوعي الخاص بي.
إنّ "النظرة" للآخر هي التي تبدأ الصراع الحتمي المترافق مع جميع العلاقات الاجتماعية، وهذه العلاقات هي هامة جدّا، لأنّها المفتاح لفهم كامل لوجودنا في العالم.
ومع أنّ الآخر هو الذي يُمسك المفتاح لذاتيتي، ومن ثم أسرار وأصل وجودي، فإنّ ساتر يرى أنّ هذا المشروع محكوم عليه بالفشل، وهنا تبرز أهمية توضيح الحرية عندنا، بمعنى أهمية تغيير الأفعال بأفعال أخرى. مهما كانت دائرة الجحيم الذي نعيش فيها، أعتقد أنّنا أحرار في كسرها، وإذا لم يفعل الناس ذلك يكونون أيضا أحرارًا في أن يبقوا داخلها. هناك نسبة كبيرة من الناس في العالم تعيش في الجحيم، لأنّها تعتمد كثيرًا على رأي الآخرين.
لا يمكن الاعتراف بنا كذوات بالكامل إلا من خلال ذوات الآخرين
إنّ الكثير من الناس منغلقون على مجموعة من الطبائع والعادات، يعانون من أحكامها عليهم، ولكنهم لا يبحثون حتى لتغييرها، وكأنّهم أموات. في هذا المعنى لا يستطيعون تكسير إطار همومهم، انشغالاتهم، وعاداتهم، وبذلك يكونون غالبا ضحايا أحكام صدرت ضدهم. وإذا لم يواجهوا ذلك، يكونون أيضًا أحرارا في البقاء داخلها، بحيث يضعون أنفسهم في الجحيم بكامل حريتهم.
فهل هذا الآخر المختلف في آرائه وتوجهاته وقيمه قادر على أن يحيل حياتي حقا إلى جحيم؟ أم أنّنا لا نملك الشجاعة التي تجعلنا نواجه الآخرين ولا نخشى آراءهم فينا؟
الآخر يقيّد حرية الآخر. وهذا ما يجعلنا نخشى دائمًا أن يُساء تفسيرنا من الآخرين، ولا يمكن الاعتراف بنا كذوات بالكامل إلا من خلال ذوات الآخرين، وسارتر يؤكد على أنّ الذات يُمكن فقط تصوّرها عبر وجود الآخرين.
أرى وأشخّص أفعالي من خلال عيون الآخرين، وعلى العكس فإنّ كلّ شيء يُقال عن علاقاتي مع الآخرين ينطبق عليهم أيضا. بينما أحاول تحرير نفسي من التقيّد بالآخر، فإنّ الآخر يحاول تحرير نفسه مني، بينما أنا أسعى إلى استعباد الآخر، فإنّ الآخر يسعى لاستعبادي أيضا.
نحن دائماً نحاول السيطرة على نظرة الآخر لنا، لكنّنا لا نستطيع ذلك بشكل كامل، فالعالم البشري يبدو وكأنّه حلقة من الصراع المستمر الذي لا نستطيع أن نخرج أنفسنا منه أبداً
فتذكر دائمًا أنك تأخذ في الحسبان الإطار الاجتماعي الذي تعيش فيه، بعاداته وتقاليده ومسموحاته ومحظوراته، وهذه العلاقات هامة جدا لأنّها المفتاح لفهم كامل لوجودنا في العالم. لكن، حالما يبرز الآخر، فإنّ حريتي سوف تضطرب وتنكمش. وبالتالي، أنا أفقد كلّ ما لديّ من سيطرة، كما أنّ وجودي لأجل الآخرين يتقرّر إلى حدٍّ كبير بواسطتهم، فهم يمتلكون الآن القوة والسيطرة لإعطاء أي معنى لأفعالي التي يرغبون بها كشيء لهم/ للآخر، أنا هنا لم أعد موجودا كفرد حر لنفسي، وبدلًا من ذلك أُصبح موجودا كشيء غير حر للآخر. ولكن إذا كانت الحقيقة هي صراع حتمي تبادلي، كيف لنا كأفراد أن ندير هذا التحدي؟
يرى سارتر أنّ الحل الأساسي يكمن في تبنّي الإيمان الزائف، وهو مفهوم فلسفي استخدمهُ كلّ من سيمون دي بوفوار وجان بول سارتر ليصفا الظاهرة التي يكون فيها الانسان تحت ضغطٍ شديد من القوى الاجتماعية السائدة، فيضطر إلى تبنّي قيم زائفة، منكرًا ومتخليًا عن حريته الفطرية. ونحن كأفراد نبذل وقتًا وجهدًا كبيرين في متابعة وبناء العلاقات مع الآخرين، ولا يمكن إنكار وجود الترابط الوثيق ضمن عالمنا في علاقة لا بدّ منها بين الذات والآخر. ولذلك كانت الحقيقة هي صراع حتمي تبادلي.