هكذا سرقوا منا الحسين

12 سبتمبر 2019
+ الخط -
يتيح لك الحاضر أن تفهم التاريخ أكثر، أن تميط عنه غلالات الطائفية المنتنة ومقاصد السلاطين ورجال دينهم. واليوم أدعوك لننزع - لبعض الوقت - عن أجسادنا أردية الطائفية، ولننظر إلى معركة كربلاء أو واقعة الطف أو ذكرى عاشوراء، بحسب التسميات المتعددة بتجرّد ديني، وبرؤية يرسمها الواقع الذي نعيشه اليوم.

وفق واقعنا، تبدو قصة الحسين قصيرة وبسيطة جداً ولا تحتاج إلى كثير من التحليل والخلاف: وريث هزيل يستلم الحكم عن أبيه في دمشق، لتكون تلك الوراثة سابقة في نظام الحكم، فيعلن البعض ثورة، يدعمها الكثيرون ويعلن كثيرون أنهم أصدقاء لها، ودماء الثوار خط أحمر، ثم سرعان ما يتبين للثوار كذب الأصدقاء وزيفهم، وينفض عنهم من أيّدهم بدعاوى مختلفة، مثل الخوف من بطش الحاكم أو الخشية على أملاكهم ومستقبل أطفالهم، وهكذا يفتك الحاكم بالثوار، يعينه في ذلك بعض أصحاب المصالح ممن كانوا ثواراً بالأمس ولكنهم آثروا السلامة، ويمعن الحاكم في دمشق قتلاً وإذلالاً وتشويهاً وإهانة. بل إنه في معركته الأخيرة يفرض التجنيد الإجباري بحق كل أهل الكوفة فيحشد آلاف المقاتلين ضد عشرات الثوار المحاصرين ومعظمهم من المدنيين والنساء والأطفال، ولا يتوانى عن القبض على المتخلفين عن التجنيد بدعوى تأييد الإرهابيين.


بعد المجزرة ينبري مؤرخو الحاكم ورجال دينه ليقولوا لنا: إن كل ما حصل كان بدون موافقة الحاكم وبغير رضاه، بل إن الحاكم مؤمن محتسب صادق بكى بحرقة عندما علم بخبر المجزرة، مؤكدين أن الحاكم جيد ولكن من حوله هم الفاسدون! ثم يصبح ما فعله هؤلاء الثوار خطراً يتهدد كل الممالك الهزيلة المجاورة التي بنيت بالحديد والنار أيضاً، فينبري رجال دين السلاطين والملوك لتبيان خطأ ما فعله الثوار والتأكيد على حرمة الخروج على الحاكم ووجوب طاعته ومبايعته والبصم له بالدم: نعم إلى الأبد!

لاحقاً سيدرك الذين خذلوا الثوار وانفضوا عنهم وأولئك الذين التزموا الحياد أي مصيبة ارتكبوها وأي خطأ فادح اقترفوه، فيبدأون بإحياء ذكرى المجزرة ليضربوا أنفسهم ويشقوا صدورهم وظهورهم ورؤوسهم نازفين دماء الندم والاعتذار بعدما أدركوا أن الحاكم أكلهم كما أكل ثوارهم وجوّعهم وسلبهم لقمة عيشهم وصادر أملاكهم التي خافوا عليها وقتّل أطفالهم في حروبه وجعل مستقبلهم نفقاً مظلماً لا نهاية له.

تلك هي قصة الحسين، قصة لن تروق للكثيرين منكم وخاصة لأولئك المتعيّشين على الصراع الطائفي. يا سادة، القصة لم تكن يوماً شيعة وسنة، كانت دائماً ثورة وحاكم.

ودار الزمان، وكما في كل مرة، لبس الذئب ثياب الخروف الذي أكله للتو وراح يبكي عليه، وسرق المجرمون الحسين منا نحن الثوار حملة لوائه، ورفعوا شعار "يا لثارات الحسين" على أشلائنا، وراحوا يدّعون نصره بتقطيع أوصال أحفاده من السوريين الذين قالوا لا في وجه حاكم دمشق الهزيل!

تقول الحكايات التي ما كان لك أن تصدقها قبل 2011، إن طفلاً رضيعاً للحسين كان معه في كربلاء اسمه عبد الله ويلقب بعلي الأصغر، جاؤوا به لأبيه أثناء المعركة المجزرة وقد اشتد به الجوع والعطش بعدما جف صدر أمه، فرفعه الحسين للقوات المحاصرة طالباً منهم أن يسقوه فهو طفل لا ذنب له، فسدد أحد جنود الحاكم نحوه سهماً استقر في عنق الطفل ليقتل بين يدي أبيه، وتجن أمه المسكينة.

حكاية كان يسهل على رجال الحاكم تكذيبها والقول إنها من أساطير الطائفة الأخرى، ولكن السنوات الماضية جعلت تلك الحكاية وغيرها قابلة جداً للتصديق، إذ عادت جيوش الحاكم لتقتل آلاف الأطفال بين يدي آبائهم الذين لم يطلبوا لهم شيئاً سوى بعض حياة.

تقول الحكايات الحديثة إن جيش الحاكم حاصر مدينة حماة قبل 40 عاماً وجوّع أهلها ثم راح يرمي لهم أكياس الخبز في الأزقة والطرقات ثم يصطاد قناصته من يجرؤ على المغامرة للحصول على ما يسد رمق أطفاله، تقول الحكاية إن الحسين كان هناك، شاهد أطفاله يوشكون على الهلاك جوعاً فركض نحو الطريق، عاجلته رصاصة ثم أخرى ثم أخرى ولكنه استطاع أخيراً أن يرمي بكيس الخبز لأطفاله قبل أن يسلم روحه مع الرصاصة الخامسة.

تقول الحكاية إن الحسين قتل تحت التعذيب في أحد سجون الحاكم، ويؤكد أصحابه أنهم شاهدوا صورته بين صور القيصر، وتقول الحكاية إن الحسين كان يمشي في شوارع الغوطة حاملاً جسد طفله مختنقاً بالكيماوي، ويؤكد آخرون أن الحسين ما زال على قيد الحياة، يعيش الآن في خيمة على الحدود التركية بعدما قصفت طائرات الحاكم بيته وقتلت عائلته.

تقول الحكايات الكثير، ولكنها لم تستطع أن تعرف بعد كيف سيعبّر السوريون الذين خذلوا ثورتهم وآثروا الصمت طلباً للسلامة أو أيدوا الحاكم عن ندمهم على خذلانهم وبأي شيء سيضربون رؤوسهم مستقبلاً بعد أن يلتهمهم الحاكم ويقتلهم رهقاً!