هزليات السياسة الأسدية (31)

05 فبراير 2020
+ الخط -
زوال النحس بشكل مؤقت
زعمَ أبو الجود أن حالات الانتعاش الاقتصادي التي يمر بها الإنسانُ الفقير من أمثاله ليست طبيعية، إضافة لكونها، في أغلب الأحيان، مؤقتة. وقال إن الوضع الطبيعي للغني أن يضحك، ويفرفش، ويصرف، ويسرف، ويمشي في الأرض مرحاً، وأما شخصية الفقير فأكثر ما يليق بها الأسى والنكد والكآبة، فإن سُرَّ الفقير، في يوم من الأيام، وفرفش، وضحك، فإنه يخاف، ويتطير، ويقول لجليسه:
- الله يسامحك يا صديقي، ضَحَّكْتْني ومو جاية على بالي إضحك. الله يعطينا خير هالضحك!

وحتى الكلام العادي، يرى أبو الجود أنه من حق الأغنياء أو أصحاب المناصب في الحزب والحكومة والدولة. وشرح لنا وجهة نظره قائلاً:
- لما بيجتمعوا الناسْ في مجلس أو مضافة، بتلاقيهم منتظرين الغني لحتى ينطق، وحتى إذا كان كلامه علاك و(تَبْجيق) بيأيّدُوه، وبيطَيّبُوا لُه،. وإذا صاح موالْ أو غنى أغنية هابطة بيصيحوا: آه آه.. ما يبلى هالصوت.. ولَكْ أشو هاد؟ والله محمد عبد الوهاب ما بيوصل في الغناء لزنارك. الفقير مهما قعد بين الناس ما بيصير لُه دور يحكي، وإذا حكى ما حدا بينتبه لكلامه، الله وكيلكم يمكن الناس بيركّزوا على تعواية الكلب الجعاري أكتر ما بيركزوا عَ حكي الفقير اللي متلي!

قال الأستاذ كمال: يا أخي أبو الجود، أنا ما فهمت السبب اللي بيدفعك لتقول هادا الكلام.

قال أبو الجود: ولا شي، بس كنت حابب أشكركم إنتوا رفقاتي اللي بتلتقوا في جلسة "الإمتاع والمؤانسة" لأنكم بتعرفوني مفلس ومنحوس وأندبوري، ومع هيك بتخلوني إحكي، وإذا ما حكيت بتطلبوا مني إحكي.


قال أبو جهاد: تحكي من وجع ضرسك إن شالله، إحكي بقى وخلصنا، بس أوعى تصيح موال أو تغني، ترى بعد شوي بتتلفت ما بتلاقي حدا موجود هون!

قال أبو زاهر: أنا شايف المقدمات تبعكم عم تزيد عن حدها شوية. أبو الجود قال إنه استلم الموتوسيكل اللي تبرعْ لُه فيه قائد الشرطة العميد "أبو عزام"، وبعدما طلع من كراج الحجز باعُه. أنا رأيي يكمل حديثه من عند هاي النقطة.

قال أبو الجود: بتعرف يا أبو زاهر بشقد بعت الموتوسيكل اللي عطاني ياه قائد الشرطة بهداكا الوقت؟ أنا كنت إقبض راتب من شعبة الحزب 1800 ليرة سورية في الشهر، والموتوسيكل بعته بـتلاتة وعشرين ألف ليرة. وهالمبلغ أكتر من راتبي بـ 12 مرة. يعني كأني قبضت راتب سنة كاملة بدقيقة، ومن دون أي شغل أو مجهود. إيه. سقى الله هديك الأيام. صدقني يا عمي أبو محمد مَضّينا شهر من أحلى ما يكون.

قال أبو محمد: أكيد كَيَّفْتْ.

قال أبو الجود: أي والله. يوم قبضت تمن الموتوسيكل استأجرت تكسي عمومية ورحت من إدلب ع معرتمصرين سكارسا، مريت ع دكان مصطفى رحمو، اشتريت بصل ولبن وبندورة ودبس رمان، ومن عنده رحتَ ع دكان القصاب محي الدين الشب، اشتريت تنين كيلو لحمة، خليته يفرمهن ويخلطهن مع دبس الرمان والبندورة والبصل، ورحت لعند الفران عساف بربور، عملت لحم بعجين وصفايح بلحمة، ولما صاروا جاهزات قلت له لشوفير التكسي وصلني ع الضيعة، ولما وصلنا لقدام بيتي في الضيعة طلبت من الشوفير يزمر، وبقي يزمر لحتى طلعت أم الجود والولاد وقالوا لي: خير؟ أشو في؟ قلت لهم: نزلوا البضاعة واسبقوني لجوة.

قال أبو إبراهيم: هادا تصرف أَغَوَات إقطاعيين.

قال أبو الجود: اللي بيحسن يصير آغا ليش ما يصير؟ المهم يا شباب، قعدنا أنا والمرا والولاد وصرنا ناكل بطريقة "إما قاتل أو مقتول". متلما بتعرفوا نحن في عندنا جوع عتيق. ولما قالت لي أم الجود: من وين جايب المصاري؟ انضرب دوزاني، وغضبت، وشلتْ الصينية اللي فيها الأكل ورحت قعدت بعيد، وقلت للولاد:
- اللي بيحب ياكلْ من دون ما يعرف من وين جبت مصاري خليه يتفضل، واللي حابب يعرف خليه بعيد.

قاموا هجموا علي كلهم، وأم الجود في المقدمة، وصاروا ياكلوا من دون ما يسألوا. أكتر شي عجبني بهداكا اليوم إبني محمود. قال محمود لأمه: بتحبي أقول لك سر يامو؟

قالت له: قول.

قال لها: أنا بعرف من وين أبوي جاب المصاري. شفته في الليل عم يتعربش عالحيط تبع البلدية، وبعدها نزل لتحت، وراح عالخزانة، وكسرها بالشاكوش، وطالع المصاري اللي جواتها، ونط عَ الحيط ونزل عالزقاق، ولما شافني قال لي اسبقني عالبيت أنا رايح أعمل صفايح ولحم بعجين. لا تستبعدي إنه بعد شوي يدقوا علينا الشرطة الباب وياخدونا.

أم الجود عرفت إنه محمود عم يكذب ويعمل فيها "فلم"، فقالت له:
- أنا ما بيهمني كل هالحكي، ان شالله هلق يجوا الشرطة وياخدوا أبوك. أنا بدي آكل.
قلت لأبو الجود: المخلوقة استبسلت!

قال أبو الجود: كلياتنا استبسلنا. تاني يوم عملت كنافة عند "ولاد جميعة"، تالت يوم شويت لهم شقف وكباب عند "قزومة"، رابع يوم أخدتهم ع معرتمصرين واشتريت لهم تياب وكنادر من دكان الحاج بحري حلابو.. بتعرفوا أشو اكتشفت بهديكة الأيام؟

قال أبو جهاد: ما شاء االله، كمان صاير تبع اكتشافات. أشو اكتشفت؟

قال أبو الجود: اكتشفت إنه لما بتدخل على بيتك وإيديك مليانة أكل وهدايا، عيالك ما كتير بيدققوا على كلامك، وما بيهمهم إذا كان كلامك صدق ولا كذب. يوم أكلنا الكنافة، وبعدما غسلنا إيدينا عملت أم الجود أبريق شاي وقعدت جنبي، ومالت علي متل العشاق اللي منشوفهم بالتلفزيون وقالت لي:
- حبيبي عبد الجواد، إحكي لي الصدق، من وين جبت الصفايح واللحم بعجين والكنافة؟

قلتلا: يا ستي هادا أمين الشعبة كان عازم أصدقاؤه عالغدا، وأصدقاؤه اعتذروا، فقال لي: خود يا أبو الجود هالأكل لولادك. تاني يوم عزمهم على كنافة، وما أجوا. قال لي خود الكنافة لأولادك. مرتي وولادي بيعرفوا إنه أمين الشعبة ما في أبخل منه في العالم، ومع هيك صدقوني.

قال كمال: بتعرفه أشو اكتشفت أنا؟ اكتشفت إنه سعادة أبو الجود وعيلته أكيد بيقابلها تعاسة صاحب الموتوسيكل اللي صادروه الشرطة، وتبرع فيه قائد الشرطة كأنه عم يتبرع من مال اللي خلفوه!

(للقصة تتمة)
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...