هروب بطل القصة

10 مارس 2020
+ الخط -
في أول جلسة "إمتاع ومؤانسة" عائلية أصبح الجو أكثر أنساً ولباقة، وأصبح كل واحد منا نحن الرجال حينما يتحدث يزن كلامه بميزان الذهب لئلا يغلط، أو يتخبط بكلامه فتأخذ السيداتُ اللطيفات عنه فكرةً بأنه خشن، أو كما يقول أهل حلب (قَبَا)، وهي الكلمة التي اكتشفنا مؤخراً أن أصلها تركي (kaba)، وتعني الخشن أو الغليظ، وسبق أن ذكرت لكم في حديث سابق أن كلمة قبضاي التي نستعملها في سورية أصلها تركي، وتتألف من كلمتين هما (Kaba Dayı)، أي الخال الخشن، وهناك نوع من الحَمام يُعرف في مدينة إدلب باسم "القباقلي"، هو خشن فعلاً، وحينما يبرقم ترى ريشه ينتفش، وذيله يرتفع إلى الأعلى..

رحبت بنا السيدة أم ماهر صاحبة الدعوة ترحيباً طيباً، وطلبت من كل سيدة أن تعرف على نفسها ثم على زوجها..

هنا تدخل الأستاذ كمال وقال: يا ريت يتم هالأمر بسرعة، أو يكون التعارف خلال الحديث، حتى ما يصير وضعنا متل الصفوف الثانوية في سورية، لما بيجي مدرب الفتوة أو التربية العسكرية وبياخد التفقد بخشونة، وبيخلي الطلاب الرقيقين يرتعبوا ويخشبوا ويصير الواحد لما يقول إسمه يبلع حرفين تلاتة منه من شدة الخوف.

قال أبو إبراهيم: الرِجَالْ، بشكلْ عامْ، خشنين، والسيدات لطيفات، ولذلك بيسموهن الجنس اللطيف.. ولكن مع ذلك الخشونة الزايدة مو مقبولة حتى عند الرجال المثقفين.

قلت: أنا بدي أوجه خطابي للسيدات الموجودات في هاي السهرة الظريفة، وحابب أقول لهن إني سهراتنا بيغلب عليها الارتجال، والانتقال من حديث لحديث تاني من دون تخطيط مسبق، يعني على مبدأ (حَسَبْ السوق منسوق). بصراحة أنا كنت ناوي افتح حديث بيصلح لمشاركة السيدات والرجال فيه بنفس السوية، لكن فجأة انفتحتْ سيرة اللطف والخشونة وصارت تلح علي قصة بطلها شخص من بلدنا كان له طباع غريبة، وأهم طباعه هوي النفور من الرجال الـ(قَبَا)، وكان يسميهم الخَشَايِن.


قال كمال: أنا شخصياً بحب إسمع القصة اللي قال عنها أبو مرداس، لكن بشرط، إذا في وحدة من السيدات الحاضرات حابة تشارك بقصة أو بموضوع نقاش لا مانع، وبوقتها ممكن نأجل القصة.

قلت: وأنا موافق.

قالت أم ماهر: أنا من ناحيتي ما عندي شي قوله، وبتمنى إسمع القصة.

انتظرتُ قليلاً حتى تأكدت من أنه لا يوجد من يريد الكلام، فقلت:
- كانْ بطل القصة، ولنفرض أن اسمه "أبو نادر"، بينفر من الرجال الخشاين، ولما كنا ندعيه لسهرة بيبلش يعمل فصل المراوغة الشهير تبعه، ويقول: سهرة مع هالوجوه الطيبة؟ يا سلام، هادا يوم المنى بالنسبة إلي، منكون مسرورين ومستمتعين بأحاديثكم الغنية، وقلبنا بيبقى مرتاح لما مننظر لوجوهكم النيرة.. ولما بيوصل أبو نادر في حديثه لهون، بيسرب اسم واحد من الخشاين اللي بيتوقع يكون موجود بيناتنا بحكم الصحبة أو الصداقة مع واحد منا، وبالأخص الخشايني المعروف بلقب "أبو براطيم". بيقول: ولا شك أن فرحة قلبي راح تكتمل لما حضرتكم بتدعوا الأخ أبو براطيم حتى يكون بيناتنا، لأنه أنا، ومع احترامي لوجوهكم النيرة، بيسعدني وجود هالإنسان بشكل خاص، يا خيو الجلسة معه غير شكل. ولما بيعرف إنه أبو براطيم راح يكون موجود فعلاً، بيقول: يا سلام! أي هيك هه. أكيد السهرة الليلة راح تكون صَبَّاحية. ويقول لي: شوف يا أبو مرداس، أنا بدي نبهك لشغلة كتير مهمة بتتعلق فيك، وهيي إنك في العادة بتبلش النق من الساعة واحدة بعد نص الليل وبتقول اسمحوا لي إنصرف لأن أختكم أم مرداس في البيت لحالها، وخاصة بعدما تزوجوا البنات ومرداس راح ع الجامعة.. خيو أنا شايف الحق معك في كل الأيام، إلا إذا كان أبو براطيم موجود، بوقتها لازم تسهر للصبح، وإذا سألتك أم مرداس ليش تأخرت، قل لها أبو براطيم كان موجود في السهرة، وأكيد هيي راح تتفهم الوضع وتقول لك: كويس إنك بقيت للأخير.. لأنه أكيد هيي سمعانة بالمستوى الثقافي اللي بيتمتع فيه هالإنسان، مستوى بيخلي الإنسان القاعد معه يستفيد ويتثقف.

أبدت السيدة حنان زوجة الأستاذ كمال الكثير من الاهتمام والاندهاش وقالت:
- واضح إنه هادا أبو نادر شخصية ظريفة بشكل استثنائي. يا ريت نعرف شو بيعمل أبو نادر لما بيعرف إنه أبو براطيم موجود. بيجي عالسهرة ولا بيعتذر؟

قلت: هوي بيعمل حاله مسرور ومبسوط ومتحمس، وإنه ما بيقبل تنتهي السهرة قبل ما يطلع الصبح، لحتى ما حدا يلح عليه ويقول له (لازم تجي)، وبعدما يطلع من المكان بيصير بيتلفت يمين وشمال ولورا متل كشاشين الحَمَام، وبيغذ السير باتجاه البيت، ولما بيدخل وهوي بهالوضعية اللي بتوحي وكأنه مُطَارَد، بتستغرب مرته وبتسأله عن السبب، بيجاوبها بكلمة وحدة: خشاين. أو بيذكر لها اسم واحد من الخشاين اللي معتاد يهرب منهم، على سبيل المثال: أبو براطيم! وطبعاً هيي بتبتسم وبتعرف أيش المطلوب منها وبتنفذه بحذافيره.

قالت السيدة حنان: وشو بقى المطلوب منها؟

قلت: أول شي لازم ينشال البريز اللي بيوصل التلفون بالمأخذ.. لأن لما نحن منروح ع السهرة ومنتفاجأ بإنه أبو نادر مو موجود أول شغلة ممكن نعملها هيي إني نتصل فيه بالتلفون ونسأله عن سبب التأخير أو التقاعس. تاني شي بتفصل أم نادر الكهربا الخاصة بالإنارة عن البيت، حتى إذا خطر للساهرين فكرة إنهم يبعتوا وفد منهم لبيت أبو نادر، وأجا الوفد، يتفاجأ بأن الضو مطفي، يعني ممكن الرجل يكون نايم، أو مو هون. وإذا الشخص اللي جاية ينادي له حَطّ إيده على مكبس الجرس ما بيرن الجرس، لأنه الكهربا مقطوعة، وإذا خبط ع الباب بإيديه ورجليه ما راح يستفيد شي، لأن أبو نادر وأم نادر ما راح يردوا.. يعني باختصار، لو كان عبد الله حصوة شخصياً عم يبحث عن "أبو نادر" مو ممكن يلاقيه.

قال أبو محمد: مين عبد الله حصوة؟

قلت: هادا كان مختص بإبلاغ الممثلين عن مواعيد التصوير في التلفزيون (ريجيسير). وكان إذا الممثل متخبي تحت طقاطيق الأرض قادر يلاقيه، ويبلغه.

في هذه الأثناء بدأ أبناء "أبو ماهر" بإدخال أطباق الطعام. وقالت السيدة أم ماهر: أكيد راح نعرف تتمة القصة من أبو مرداس بعدما ناكل لقمة مع بعض. يللا تفضلوا.

(للقصة تتمة)
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...