هدنة بلا فرح
لم أستطع أن أفرح بإعلان وقف إطلاق النار في لبنان. كيف يفرح من ينجو ليجد نفسه عالقاً بين الحياة والموت؟ بين الرماد الذي غطى وجوه الشوارع والصمت الثقيل الذي يُخفي وجوه الضحايا؟ الهدنة ليست سوى خطوة إضافية في متاهة الفقد، حيث الأرض تئن تحت وطأة الذاكرة الثقيلة، وحيث الحياة لا تأتي إلا كعابر سبيلٍ خائف.
حين أعلنوا الهدنة، لم أسمع ضجيج الفرح، بل رأيت مدناً وقرى تنكّرت لخرائطها، وجوهاً فقدت أسماءها، ومنازل تحوّلت إلى شواهد قبورٍ لا تحمل أسماء سكانها. أطفأت الحرب أصوات الانفجارات، لكنها تركت صدى الأنين يتردّد بين الجبال والبحر، كأنّ لبنان بأسره يختنق بصمتٍ لم يختره.
والأرض هنا لا تحتفل. الطرقات مثقلة بأشباحٍ تمشي في الفراغ. طفلٌ يحمل دفتره المحترق وكأنه يحمل ظلّه، وأمٌّ تبحث عن وجه ابنها بين الركام، ورجلٌ يتكئ على ما بقي من جدران لا تعرف شيئاً عن الأمان.
هنا، لا ينتظر الفرح أحداً، فهو يعلم أنّ من عاش تحت القصف لا يتقن سوى لغة الحداد
أقول لكم: لم أضحك، ولم أطمئن. كنتُ أجلس في صمتٍ، أسمع أصوات الحطام وهي تحكي قصصها للأحياء. هذا الخراب الذي صار جزءاً من ذاكرتنا، هذا الهواء المشبع برائحة الرماد. هنا، لا ينتظر الفرح أحداً، فهو يعلم أنّ من عاش تحت القصف لا يتقن سوى لغة الحداد.
في هذه الأرض، الهدنة ليست راحة، بل وهمٌ مؤقت. هي محاولة للنجاة من موتٍ متكرّر، لكنها ليست حياة. نحن هنا لا نعيش، بل ننتظر، ننتظر حرباً جديدة، مجزرة أخرى، أو ربما ننتظر أن تكتمل القصّة التي لم تنتهِ.
أحياناً، يُخيّل لي أنّ الفرح هنا خطيئة. كيف نفرح وأصوات الضحايا لا تزال تعلو فوق صوت الهدوء؟ كيف نفرح ونحن نحمل معهم عبء غيابهم؟ كيف أفرح وأنا أعلم أنّ هذا الصمت الذي نسميه هدنة هو هدير لإبادةٍ قادمة؟
يقولون: "إنها هدنة"، لكنني أرى فيها مهلة جديدة لنيران المحرقة، فرصة أخرى للموت الجماعي. لأننا نعرف، في هذه الأرض المرهقة، أنّ العدو لا يمنحنا سوى موتٍ مؤجل.
ما زلت وحيدةً، أراقب ركام الأيام التي مرّت، وأستمع إلى أوجاع الذين بقوا. نحن الناجون، لكن من قال إنّ النجاة حياة؟ نحن أحياء بحكم الانتظار، نحمل على أكتافنا جبالاً من الحزن، ونعبر من موتٍ إلى موتٍ آخر، بلا راحة، وبلا فرح.
هنا، في لبنان، لا ينتهي الحداد. نحن أمام هدنة بلا معنى، تماماً كأن تعتاد الطعنات فلا تشعر بالألم. نحن وحدنا، نحاول أن نلتقط أنفاساً لا تكفي إلا لنتذكر وجوه الغائبين، ولا شيء هنا يدعونا للفرح.