نُزهة الغروب (2): في تأمّل كيفَ تُغيّر السماءُ أصواتها
قبل أذان المغرب في رمضان، ترتفع الصومعات بأصوات المقرئين يرتّلون ما تيسّر من القرآن. إنها فُسحة يومية نادرة تكون فيها السماء مليئة مثل الأرض في مدننا. وفي حال تقاربت المسافة بين المساجد - كما في أحياء كثيرة في تونس وفي غيرها من البلاد العربية الإسلامية - يمكن أن تَعبُر بين ألوان متعددة من القراءات؛ هنا تُتلى آياتٌ من سورة يس بصوت عبد الباسط عبد الصمد، وهناك تُقرأ سورة مريم بصوت عبد الرشيد الصوفي، ولك أن تسمع بعضاً من سورة الكهف بصوت أحمد العجمي، أو تصل إليك تلاوة عبد الرحمن السديّس آل عمران.
ذلك العبور ليس عبوراً بين أصوات، إنه في كثير من الأحيان عبور بين مناطق نفسية، بين رؤى مختلفة للنص القرآني وللعالم، بين تصوّرات مختلفة للدين وللدنيا معاً.
عبورٌ بين من تمرُّ معه الآيات متتالية كأنها مرّ السحاب، وبين من تستغرق الآية الواحدة معه دقائق بين تقليب على تلوينات شتّى بحثاً عن تعدّد معنى أو لغايات جمالية صرفة، مع ترصيع القراءة بالمعرفة الموسيقية في انتقالات عجيبة بين المقامات والطبقات الصوتية، وترك مساحات للصمت أيضاً، وهي فراغات مقصودة كي يلتقط المقرئ أنفاسه، وكذلك المستمع، فيملأ تلك الفراغات ببعض ما تأمّله من الآية، أو كي يجد الوقت ليطرب، وليس نادراً أن يتعالى صدى المستمعين وقد ارتفعت الحناجر مع كل قفلة يردّدون: الله.
تلك القراءةُ تحيلنا إلى الراهن الحيّ، وما نحنُ عليه اليوم من سرعة حركة لا تهدأ ولا تترك للسَكينة مساحة تستقر فيها. وذاك يعود بنا إلى "يوتوبيا" بعيدة حيث فُسَح السماع وآدابُها، ولذة التدبّر والتأمّل والتلوين، والارتفاع إلى ما هو أبعد من النص، وفي ذلك بعض من التطرّف الروحاني الذي طالما شجبه المنتقدون داعين إلى قراءة أكثر رصانة وجدّية، كثيراً ما توصل هي الأخرى إلى تطرّف في الجهة المقابلة، حيث يظهر حرص بعض المقرئين على تنقية تلاواتهم من كلّ ما هو موسيقي.
العبور بين أصوات المقرئين أشبه بعبور بين مناطق نفسية ورؤى مختلفة عن العالم
وإنها لمعادلة ومفارقة؛ هل يبلغ النص أعلى درجات الفاعلية التأثيرية دون تلك الزينة التي لها أن تصاحبه؟ وهي نفس الإشكالية التي يقع فيها فن معمار المساجد، هذا يقول إن الزينة عامل تأثير يخدم مقاصد الدين، وذاك يحسب أنها تشغل المُسلم عن العبادة.
تصوّران لا يزالان يتحرّكان معاً عن الإسلام في ديارنا؛ هذا يغلّب الدين فيكاد يحجب الدنيا، وذاك ينتصر للدنيا فيكاد يُزيّف الدين. على أن الدين والدنيا عُملة واحدة في ضمير الإنسان لو نعلم.
من صوامع الدقائق الأخيرة قبل أذان المغرب لنا أن نلاحظ توازناً بين النزعتين، لكن الأمر لم يعد ذلك في الواقع، فقد انتصرت النزعة التقشّفية في القراءة، وبدا أن الاجتهاد في التزيين الصوتي للقرآن قد ولّى زمنه مع المقرئين القدامى، رحمهم الله، واتجه المقرئون الجدد صوب أهداف أخرى.
هناك اليوم انتصار لقراءة القرآن دون تطريب، ولم يأت ذلك انطلاقاً من انتصار نظرة على أخرى، ففي العقود الأخيرة، عرفت مجتمعاتنا الكثير من التجريف الذوقي والقيمي، ولا شكّ أن لهذا الوضع انعكاساته على قراءة القرآن، فما القراءة الصوتية إلا تعبيرة ثقافية من بين تعبيرات أخرى، وقد حدث لها ما حدث للموسيقى وما حدث للشعر من تلعثم.
قلما يتلو المقرئون الجدد القرآن كما كان يُقرأ في القرن العشرين. اللهم إلا إذا كانوا مُقلدين لطرائق السابقين، أما اجتراح تنغيمات جديدة للقرآن فقد بات مهجوراً.
ربما هناك استثناءات في ذلك. وعلى الأرجح أن التقنيات الجديدة تدفع نحو العودة إلى النزعة التطريبية، وهو ما تجّلى بعضاً من الوقت في تجربة مشاري راشد العفاسي، غير أن المسألة لا تقاس بهواجس المقرئين وحدهم، إذ ينبغي أن ننظر للمسألة من زاوية الطلب الاجتماعي على قراءات كهذه، ومن هذا المنظور، نستشعر اكتفاء بما تحقّق في العقود السابقة. وبعدها أي نفع للاتكاء على التقنيات الجديدة في تجويد القراءة إذا لم تكن تؤثر في الناس كما كانت تفعل القراءات القديمة؟.
كثيراً ما يأخذ السجال مع النظرة المتشددة مع استعمالات التكنولوجيا في تلاوة القرآن جهود المشتغلين في هذا المضمار، وقد كان أولى التفكير في إشكاليات أخرى تمنح فعل القراءة آفاقاً جديدة، تلك التي يتيحها التطوّر التقني، فالسؤال الوجيه يتعلق بمن يتغلّب بين روح الشيء والحوامل التي توصله إلى الناس؟
يحدث اليوم أن نستمع إلى قراءات في غاية الصفاء الصوتي وفي غاية الاجتهاد الموسيقي، ولكن لا أثر فيها لروح القرآن. فما الذي يضيع حين تمر التلاوة من الاستوديو دون المسجد؟ ذلك هو الرهان الذي لا يبدو أنه يشغل الكثيرين، وهو اليوم رهان الفن (والقراءة فن) مع تعملق التطبيقات ودخولها منعطف الذكاء الاصطناعي. وهذا الرهان هو رهان البشرية جمعاء إما أن توازن بين متطلبات الكائن الإنساني ومقتضيات التقنية أو أن يضيع كل شيء جميل هدراً.
ليست هذه المعركة محسومة مسبقاً لصالح التكنولوجيا كما يعتقد البعض. في منتصف القرن الماضي، مثّل دخول التسجيلات الصوتية إلى الفضاء الديني منعطفاً تكنولوجياً حاداً. انقسم القراء بين رافضين ومؤيدين. كان الشيخ محمد رفعت، بين عشرينيات وأربعينيات القرن الماضي، أبرز المقرئين، لكنه برفضه تسجيل القرآن بصوته كان قد اختار معاداة التكنولوجيا، فانتصرت لتلاميذه لاحقاً، ولم يبق منه سوى تسجيلات مسرّبة لم تقنع أجيالاً لاحقة بعبقريته وهم يستمعون إلى عبد الباسط عبد الصمد ومحمود الطبلاوي ومحمود خليل الحصري ومحمد صديق المنشاوي ومصطفى إسماعيل.
متسلّحين بما يفتحه شريط الكاسيت من آفاق، جعل هؤلاء من التلاوة ظاهرة ثقافية جماهيرية. استفادوا بالتأكيد من مركزية الثقافة المصرية وقتها في الفضاء العربي الإسلامي، ولكنهم منحوا قراءة القرآن أبعاداً جديدة، ولك أن تنظر في خيال التلاوة (وهي مَلكة باتت مفقودة اليوم) حين تسمع لعبد الباسط عبد الصمد يقرأ سورة التكوير، فقد وظّف أدواته الصوتية لغرض تصوير معاني الآيات، في ممارسة قريبة مما سماه سيد قطب "التخييل الحسي" وهو يتحدّث عن قدرات النص القرآني البلاغية في كتابه "التصوير الفني في القرآن".
ومن المؤكّد أن تجربة عبد الباسط قد استندت، إلى جانب مؤهلات المقرئ في زمنه، إلى انفتاح على البيئة الثقافية المزدهرة في مصر في عقود منتصف القرن العشرين. هناك خيط ناظم - على تباعد المجالات - بين درجات التمكّن اللحني الذي نجده عند نضج تجربة محمد عبد الوهاب أو رياض السنباطي، أو درجات التمكّن النصّي في أدب طه حسين ونجيب محفوظ.
وإلى ذلك، كانت قراءات ذلك الجيل تحيل إلى ما هو أعمق في التجربة الروحانية. لسنا نستمتع إلى القرآن فحسب مع كبار المقرئين، فأنت تحضر في قراءة الحُصري على بحث عن التدبّر، ومع الطبلاوي تقف على تنويعات نغمية تلوّن الآيات بحسب دلالاتها.
وفي جغرافيات عربية أخرى، في ذات الفترة الزمنية، وصلت قراءات عبد الرحمن الحذيفي وعلي عبد الله جابر برصانتها، وإن بلغت حد التجهّم أحياناً، وكان من الواضح أنها تراهن على قطيعة مع المدرسة المصرية. وفي كل بلد كانت بعض الأسماء تلمع، ولكنها تظل منحصرة في إطارها المحلي، حيث بقي الوصول إلى المدى العربي حكراً على المقرئين المصريين والسعوديين.
في تونس، حظي علي البرّاق بموقع خاص بين المقرئين. رغم رحيله منذ ثمانينيات القرن الماضي، لا يزال الأذان يُرفع في كثير من الصوامع التونسية بصوته، وتقاس معيارية القراءة في تونس على تلاوته. لم يدخل البرّاق في لعبة التلوينات المصرية، بل إن قراءته ثابتة نغمياً، فيها شيء من الرتابة، لكن تملك نكهة خاصة، فهي تعبّر عن استلام تقاليد قراءة بعيدة في الزمن، تشكّلت على مدى قرون، وهي تشير إلى قدرات الجماعات - حين تثبت في المكان - على تطوير جماليات خاصة تعبّر عنها بعمق. وبالتالي يبدو الاستماع اليوم إلى البرّاق (ورمضان كل عام فرصة لعودته) مثل النظر في بئر محفورة في الدهر.
من حسن الحظ أن البرّاق لحق تسجيلات الإذاعة، وإلا كان هذا الموروث قد اندثر، خصوصاً وأنه قليل الحضور في تلاوات المقرئين الجدد، الذين يجدون فرصة حضور أكبر بفضل تعدد الإذاعات والتلفزات، ولكنه حضور كغياب، فالكثرة قد أفقدت الجميع فرص الحضور الحقيقي والفعل العميق في ضمائر الناس، زد على ذلك السقوط الجماعي في التشابه الذي يمتد من المحيط إلى الخليج. وعلى هذا الواقع، تنغلق نزهة الغروب اليوم.