نوستالجيا الألعاب والموسيقى
اكتشفت أخيراً متجر ألعاب في منطقتنا متخصّص ببيع الألعاب المخصّصة للجمع، وخصوصاً لشخصيات كرتونية من سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، فسارعت لزيارته طمعاً في الحصول على مجسمي "جرينديزر" و"دارث فيدر" محوري الخير والشر بالنسبة لي زمن الطفولة.
للأسف، كلا النموذجين كانا قد بيعا، وحتى لا أعود بخفي حنين ظفرت بمجسمين لـ"باتمان" و"بمبلبي" من الآليين المتحوّلين. وكشخص أمضى عقوداً في جمع الطوابع البريدية والمسكوكات، فأنا بالتأكيد لا أبحث عن هواية جمع أخرى حالياً، ولن أبدأ الآن بذلك، وذلك على الرغم من حبّي الكبير للألعاب، ولكن يبدو أنّ الحنين إلى الماضي باتَ يغالبني في الآونة الأخيرة.
مع التقدّم في العمر والشعور بتباطؤ الكون من حولي، اشتدّ شعوري بالحنين إلى الماضي؟ لربما باتت هذه طريقتي اللاواعية في الهروب إلى الخلف، وأنا في نهاية الأربعينيات، وذلك في محاولة لتذكّر الإنسان الذي كنته يوماً ما، متسلحاً بحنينٍ يدغدغ المشاعر ويذكرني بالإنسان الذي بتّ عليه، أي إنسان يفتقد جوانب المغامرة، والشغف، والرومانسية، والاندفاع... هذه المشاعر والأحاسيس التي كانت تتفجر في داخله، وبالتأكيد أفتقد ذلك الأسمر الوسيم النحيف ذو الشعر الأسود الناعم الذي لم تبق لي الأيام منه سوى بعض الوزن الزائد.
أحنّ إلى الماضي إلى درجة أنّني أحياناً قد أفكر في كثير من العلاقات الاجتماعية المغرقة في القدم، ولكن سرعان ما أستردّ صوابي مسترجعاً تاريخاً طويلاً أسود من المواقف المزعجة التي دفعتني لوأد هذه العلاقات وإبقائها ضمن أطر الرسميات والواجبات لا أكثر ولا أقل، وذلك ضمن حنين ذي حدين تحفزه الموسيقى، أو الصور، أو الرسائل، أو الأماكن، أو الروائح، أو الأطعمة، أو رؤية سيارة والدتي مرسيدس W114 من سبعينيات القرن الماضي، أو لقاء صديق قديم وأشياء أخرى كثيرة، لتثير في داخلي مشاعر مختلطة تدفعني للحنين إلى الماضي كلّما تعقدت الأمور في الحاضر، أحنّ كغيري إلى زمن الطيبين والبساطة! مع أنّني شخصياً غير مقتنع بكامل فكرة زمن الطيبين والبساطة الزائفة، ولكننا كالعادة عاطفيين نبالغ في إضفاء الطابع الرومانسي وهالة التبجيل على كل ما هو قديم. ولربما كان السبب الأهم في تزايد حنيني للماضي هو فعلياً أنني أمرّ في أزمة منتصف العمر مع أنني أنكر ذلك حتى اللحظة.
نبالغ في إضفاء الطابع الرومانسي وهالة التبجيل على كلّ ما هو قديم
بعيداً عن كلّ هذه التفاصيل، ما زالت بعض الموسيقى كمقطوعة ياني "نوستالجيا"، وما تحفزه من الحنين إلى الماضي هي أقرب شيء بالنسبة لي للسفر عبر الزمن، من البداية الهادئة للمقطوعة التي تحملني لسنوات المدرسة والحياة الدافئة في مدينة جرش، والتي لا تلبث أن تتسارع مع تسارع المقطوعة ليمرّ شريط من الذكريات أقرب إلى الأمواج المتلاطمة، ذكريات ليست بالضرورة جميلة ولكنها نحتت الإنسان الذي أصبحته اليوم، قد لا أحبّها جميعها ولكني بالتأكيد لا أنزعج منها، فهي التي شقت دربي الذي لو عادت بي الأيام سأمشيه ذاته مرّة أخرى.
لقد غدا هذا الحنين للماضي طقساً متكرّراً من الرحلات اللحظية الكاملة التي أقوم بها داخل عقلي بين الفينة والأخرى، رحلات تجمّدني في ذكريات جميلة أحظى خلالها بفرصة للاستمتاع بها كما كانت حقاً، وكما كان يجب أن أستمتع بها في حينها، دون أن يساورني أيّ قلق كذلك الذي كنت أعيشه فعلاً في وقت الذكرى الفعلي قبل سنوات عديدة، الآن. أستمتع اليوم بذكرى تلك اللحظات فقط، فقد مرّت وانتهت فعلاً، وأنا مضيت في دربي ونجوت وسارت الأمور بفضل الله على ما يرام.
جلّ ما أرغب به الآن هو الابتسام لوحدي حتى أبدو كأبله يضحك مع نفسه عند مرور ذكرى تجعلني أشعر بالسعادة، وبأني كنت هناك، وأنّ رحلتي وحياتي مع من أحبّ، بحلوها وبمرّها، كانت ذات مغزى وقيمة. شعوري بالحنين جزء من كوني حقيقةً ممتن وشاكر جداً على رحلة رائعة حقّقت فيها الكثير من أحلام الصبا ولله الحمد، وأطمع في تحقيق بضعة أحلام أخرى بمشيئة الله.
ولأتذكر مزيداً من هذه اللحظات الجميلة ما زلت أحاول الحصول على مجسّمات "جرينديزر" و"دارث فيدر" و"ساسوكي" و"عدنان ولينا" و"الغواصة الزرقاء" و"الفضائيون"، وهذا بالتأكيد لا يعني أنني سأبدأ بجمع الألعاب! أم هل وقعنا في الفخ من جديد؟