نزهة الغروب (5): في تدهور المسلسلات التاريخية
من بين ألوان الدراما التلفزيونية المقدّمة في رمضان، كان لي دائماً تفضيل خاص للمسلسلات التاريخية. فإلى جانب المُتعة المرتبطة بمتابعة حكايات ترسم مراحل زمنية بعيدة بشكل مؤسطر، هناك متعة القطع مع صور الحياة اليومية، وهناك قسطٌ مضمونٌ من المعرفة. وبهذا المعنى، كانت المسلسلات التاريخية في نظري شكلاً من أشكال رعاية المعرفة، وسأفهم لاحقاً أنها فرصة للعناية بمصادر الهوية، فقد كانت تتيح لنا سماع عربية فصيحة، على الأقل نحنُ مجتمعات المغرب العربي التي ابتليت بمعضلات لسانية كثيرة، كما تأتينا بشخصيات أقرّتها ذاكرة الحضارة العربية في امتدادها الرحب.
غير أنني مشاهدٌ غير محظوظ، فمنذ سنوات ألاحظ كيف تتقلّص إنتاجات الأعمال التاريخية حتى تكاد تنقرض من الشاشة. فجأة، اختفت تلك البوابات الضخمة المزخرفة التي كانت تغرينا بدخول حدائق معلّقة في فضاء الذاكرة الجمعية. وتُرك المشهد الدرامي نهباً لمسلسلات الواقعية الفجة والفكاهة السطحية. أنظُر فتبدو لي الدراما التاريخية العربية اليوم مثل عينٍ تدّفق ماؤها لعقود، وها هي قد بدأت تستسلم لمصيرها بالنضوب.
أذكر أعواماً مضت، ما بين التسعينيات والعقد الأول من القرن الجاري، حين كانت الأعمال التاريخية تتزاحم، فنحتار في تفضيل هذا على ذاك، بين مدرسة مصرية تحاول أن تحافظ على رأسمالها الرمزي وأسبقيتها، ومدرسة سورية ناهضة ومفتوحة الشهية لأخذ مواقع أمامية في خارطة الفرجة، قبل أن تظهر منطقة توليفية مع الأعمال العربية المشتركة، بدت اكتمالاً لصنعة إنتاج المسلسلات التاريخية، وحسبنا وقتها أنّ قطاعاً إبداعياً في الوطن العربي قد بلغ درجة من النضج تحميه من كلّ الاغتيالات والانهيارات، غير أن ما حصل للدراما التاريخية لم يكن إلا مصداقاً لقول الشاعر، في مقام رثاء الأندلس، فـ"لكل شيء إذا ما تمّ نقصان"، وعليه "فلا يغرّ بطيب "الفُرجة" إنسانُ.
وعلى سيرة الأندلس، ألم تُعد رسمَها في أذهاننا مجدداً مقترحات الدراما التلفزيونية عبر استعادات هي إلى الرومانسية أقرب، ولكنها تنجح في ربط العلاقة مع نقطة زاهية في ذاكرتنا العتيقة. كان المشروع الأكثر نضجاً ذلك الذي نهض به كل من المخرج الراحل حاتم علي، والكاتب وليد سيف، في مسلسلات متتالية بدءاً من 2002، سرعان ما حفّز نجاحُها على استنساخات كانت أقل جودة وبراعة.
التاريخ المكتوب درامياً يشطبُ في غالبه دولاً وحقباً برمتها، وإلى ذلك فهو ينفي تعدّد الإسلام، وقبل ذلك يختزل تاريخ الحضارة العربية في التاريخ الديني معظم الوقت
ذلك أنّ التعويل على ما يُعجب الجمهور كثيراً ما ينقلب إلى نتيجة عكسية بسبب الحرث في أرض محروثة، وتلك من عثرات الإنتاج في الدراما التاريخية، حيث استقرّت على عدد قليل من المحطات فاستزفتها استنزافاً؛ حتى أنّ تاريخاً ممتداً على أكثر من ألف عام يكاد يختزل في أربع مراحل دون غيرها؛ أولها زمن النبوة من خلال خطوط سردية موازية لسيرة النبي (لاعتبارات متعلقة بتحريم تجسيده)، وثانيها مرحلة انتزاع العباسيين للخلافة من الأموية وصولاً لاستقرار الحكم لديهم، وضمنها الأعمال الدرامية حول مؤسّسي المذاهب الفقهية، والتي تقع أحداثها ضمن هذه المرحلة التاريخية التي تعتبر العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية، أما ثالث المحطات فهي لحظة انتصار صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين، وأخيراً مجموعة زيارات متفرقة إلى الأندلس.
هذا التاريخ المكتوب درامياً يشطبُ في غالبه دولاً وحقباً برمتها، وإلى ذلك فهو ينفي تعدّد الإسلام، وقبل ذلك يختزل تاريخ الحضارة العربية في التاريخ الديني معظم الوقت، وسنلاحظ أنّ أبرز الشخصيات التاريخية التي قدّمت منجزات خارج الدائرة الدينية ظلّت مقصاة من الحضور على الشاشة؛ فابن خلدون قارة مجهولة درامياً، وكذلك الفارابي والتوحيدي وابن طفيل، وبعضهم إذا استُدعي فهو أكسسوار موظّفٌ لخدمة إسقاط على الحاضر كحضور ابن رشد الذي أذكره في عملين، أحدهما في مسلسل "مقامات العشق" عن سيرة محيي الدين بن عربي، وثانيهما في فيلم "المصير". وفي كليهما، حضر ابن رشد ليقول رأياً ضد الإرهاب والتطرف الديني، وكلا العملين يأتي بأطروحة مفادها أنّ سقوط الأندلس كان لمثل هذه الأسباب في اختزال مبالغ.
يكشف هذا النمط من المعالجات الدرامية أننا ضمن الثقافة العربية لا نؤلفُ، في الغالب، المسلسلات التاريخية من منظور أنّ التاريخ أمرٌ جللٌ وخطيرٌ، بل كنوع من التعليق على الحاضر (بعض الأعمال تنقذها الصنعة الفنية من هذا المطب، كحال مسلسل "عمر الخيام" الذي أنتج عشية أحداث أيلول 2001 أو "سقوط الخلافة" الذي يردّ على نزعة اليأس من الإصلاح عربياً في 2010)، وهو ما يبيّن أن ما يربطنا بتاريخنا في معظم الأحيان هو علاقة منفعية. وأدهى من ذلك أن تُكتب هذه المسلسلات بوصفها مجرّد حكايات مقتبسة من كتب التاريخ، يؤدّيها ممثلون من أجل متفرجين يملؤون مساحات اليوم الرمضاني، ما يعني أننا نعقد علاقة استهلاكية مع الماضي، نأكله كما نتناول أحد الأطباق على طاولة الفطور.
هكذا، وبعد الشعور بالخيبة من انحسار إنتاج المسلسلات التاريخية، يَحدث أن أَنقلب إلى نوع من الرضا على هذا التراجع، فما لم تتغذّ النخب المنتجة لهذا الشكل من الدراما بوعي تاريخي حيّ، مشحون بمعرفة بالمعضلات الفكرية لحقل التاريخ، وتاريخنا بشكل مخصوص، سيبقى هذا السؤال يحرجنا: من نستأمن في عملية صياغة علاقتنا بتاريخنا؟ سؤال يعني المؤرخين، قبل كتّاب الدراما. فلا عاصم لنا من ألاعيب التاريخ إذا سقطنا في خفة استرجاعه. ذلك الاستخفافُ بالتاريخ هو ما يعود علينا كلّ مرّة مثل خشبة البوميرانغ، ففي النهاية يرتدّ علينا التاريخ كلّ مرة ليهزأ منّا.
لا نعني بالاستخفاف صناعة الحكاية وحدها، فهناك عناصر أخرى كثيرة يمكنها أن تنقذ هذه الصناعة. لقد كانت قوة الأداء، في المسلسلات التاريخية المصرية الأولى خصوصاً، تغطّي على هنات، مثل ارتباك الرواية أو رثاثة الديكور، وقد نهض أداء أحمد مظهر وشكري سرحان، مثلاً، بالصياغة الدرامية المتشظية لمسلسل "على هامش السيرة"، وأضاف محمود يس إلى شخصيات أبو حنيفة النعمان وابن سينا وجمال الدين الأفغاني الكثير بحرارة أدائه، وبما في صوته من وقار، وغذّت حيوية نور الشريف أسطورة عمرو بن العاص (مسلسل رجل الأقدار)، وأعاد صياغة هارون الرشيد وعمر بن عبد العزيز في أعمال أخرى.
التقنية حيث تبهرك بصرياً، تكشف أكثر ضمور الموهبة في أيامنا، وأعمق من ذلك تشير إلى مأساتنا، مأساة العجز على أن نكون أنداداً للتاريخ
كانت قوة الأداء، وقتها، قادرة على إخفاء أي عيب في بقية عناصر التركيبة الدرامية، ولقد اطمأن المصريون لذلك أكثر من اللزوم على ما يبدو، فحين ظهر الاستثمار في جماليات الصورة عند السوريين سرعان ما انتهى عصر المسلسلات التاريخية المصرية المتقشفة، لندخل مرحلة جمعت بين التوسل بتقنيات التصوير الحديثة وحسن الأداء، وقد برع هنا عدد من الممثلين السوريين والأردنيين، مثل رشيد عساف وأيمن زيدان وخالد تاجا وعباس نوري وإياد نصار وجهاد سعد وجمال سليمان وعابد فهد.
لكن التقاء شروط الإبداع لم يستمر طويلاً مع اهتزاز الأرضية السورية بعد 2011. ارتحل الممثلون إلى مصر ولم يجدوا فيها إلا بقايا أطلال الدراما التاريخية ومحاذير كثيرة لا شك. سريعاً، لمعت بعض الإنتاجات العربية المشتركة، ثم تبيّن أنّ شيئاً ما قد انكسر "كأنه زجاج لا يعاد له سبك".
لم يبق من المسلسلات التاريخية إلا البحث عن الإبهار الديكوري. تُستدعى التقنية بلا حساب كي تلعب نفس الأدوار التي لعبتها براعة الممثلين سابقاً، لكنها لا تنجح في تدارك عيوب الحبكة والرؤية. فالتقنية حيث تبهرك بصرياً، تكشف أكثر ضمور الموهبة في أيامنا، وأعمق من ذلك تشير إلى مأساتنا، مأساة العجز على أن نكون أنداداً للتاريخ.
في هذه الأعوام الأخيرة، تحاول أن تتفرّح في المسلسلات التاريخية القليلة، فيزعجك تقطيع أوصالها بالومضات الإعلانية، ولا يصلك من أخبارها في الإعلام إلا التصيّد في تفاصيل التاريخ وكأنه ميثاق مكتوب على جدران الكعبة. لا يساعد هذا الضجيج في تذوّق الدراما التاريخية، ولعله مؤشر آخر من مؤشرات انقراضها التدريجي.
التاريخ هو في النهاية فاضح عورة التأخر الحضاري: لا يفتأ يذكّرنا، نحن عرب اليوم، بتخلفٍ عن ذلك الماضي الذي نمجّده بما أننا لا نجد ما نمجّد في حاضرنا
في هذه الأعوام، تحاول أن تتفرّح في المسلسلات التاريخية القليلة ولكنك تشعر أنها هي ذاتها لا تريدك أن تتفرّج فيها، كأنها لا تريد شيئاً منك، لا تحب أن تستنهضك أو تضيف لك معرفة. لا تحاول حتى التأثير في أفكارك، لا تبحث عن مستقر في ضميرك، لا تبتغي أن تجعل هذه الشخصية التاريخية أو تلك تسكنك بعد أن تنتهي من مشاهدة حلقات المسلسل. غاية طلبها أن تقضي معها قرابة ساعة فتسجّلك رقماً في قياس نسب المشاهدة لترفع قيمتها التسويقية، أو تجرّ قدمك للاشتراك في إحدى المنصات الرقمية.
لا تأتي إشكاليات الدراما التاريخية من كوكب آخر، فما هي إلا من ذات معدن إشكالياتنا العربية مع التاريخ، ونحن أمة مصابة بـ"مرض التاريخ" بحسب عبارة واردة في أدبيات الفلسفة في ألمانيا (باعتبارها أمة مريضة بتاريخها أو كانت كذلك). لعل المخرجين والمنتجين دون وعي يطمسون العين التي تعرينا، فالتاريخ هو في النهاية فاضح عورة التأخر الحضاري: لا يفتأ يذكّرنا، نحن عرب اليوم، بتخلفٍ عن ذلك الماضي الذي نمجّده بما أننا لا نجد ما نمجّد في حاضرنا. أيضاً يؤكّد تخلفنا عن صناعات الأمم الأخرى للدراما التاريخية، ليس الغرب، بل حتى الأمم المجاورة التي نشترك معها في المادة التاريخية المستحضرة للدراما.
لكن على روعة ما تقدّمه الأمم الأخرى من مسلسلات لن تقدر أن تلامس أعماقك، ها هي تمتّع العين وتجذّر المعرفة، ولكنها لا تخاطب البناء الأول للكيان. مقياس ذلك قول الشاعر المصري أمل دنقل: "أترى حين أفقأ عينيك وأثبت جوهرتين مكانهما... هل ترى؟ هي أشياء لا تشترى".