نزهة الغروب (4): في العلل التي تصيب المجلات بمقتل
يُلحُّ على مشاركتي نزهتي المسائية اليوم خبرُ توقّف مجلة "الدوحة" عن الصدور منذ أيام "حتى إشعار آخر" كما ورد في إعلان مقتضب نشرته المجلة على صفحتها الفيسبوكية.
هكذا، فإنّ مجلة ثقافية أخرى تستسلم للغروب، ولا ندري مؤقتاً أم نهائياً، وهي في ذلك شمس لن تغرق وحيدة في الأفق إذ ترافقها مجلات ثقافية عربية كثيرة، سرعان ما خمد ضياءُ نارها، وإن قاوم الغروب لسنوات. والأمر أشبه بقدر لم تفر منه معظم المبادرات ضمن هذا النوع من التعبيرات الثقافية، حتى خارج المنطقة العربية.
قبل مجلة "الدوحة" ببضعة أسابيع، قرأتُ نصّاً أشبه بما يُكتب في رثاء المدن للمؤرخ اللبناني، فواز طرابلسي، يُعلن فيه عن توّقف مجلة "بدايات"، وفي تونس لم يعد خبراً يأتي بجديد إعلان توقف مجلة "الحياة الثقافية" التي تصدرها وزارة الثقافة التونسية، فلقد توقفت مراراً وعادت، ومن الواضح أنها باتت عبئاً على كاهل الدولة أو على هذا الأساس تُعامل منذ زمن بعيد.
لا تبدو المجلات اليوم في وضعيات مريحة في ثقافتنا كي تزدهر، وبالتالي لم يبق لها سوى طاقة الدفع الذاتي التي تنطلق من بعض الأفراد لخلق مساحة لتتراكم المقولات والتصوّرات ضمن فكر ما، أو في إطار لون أدبيّ يُدفع به للساحة الإبداعية ، أو ربما التعبير عن ملامح جيل، ثمّ حين تفتر دَفعة الطاقة الأولى سرعان ما تمضي المجلة نحو غروبها المحتوم. في أحسن الأحوال ستكون أعدادها القليلة وثيقة عن براعم مرحلة ما، هذا إذا توفر الفضول لدى الباحثين في زمن لاحق.
تنتظر المجلات شريحة من المتلقين فلا تجدها، وحين يَضمر فعل التواصل الذي هو قوام المنتج المكتوب، تصبح المجلة بلا معنى
المجلة بذلك فضاء عموميّ، يُخترع اختراعاً أو يُجترح اجتراحاً من أجل التعبير عن عنصر ما ولج بيئة المثقفين ولا بدّ من وجود مرآة تعكسه. لكن هذا الفضاء العمومي يستنسخ بالضرورة أمراضاً كثيرة تخترق الفضاء العمومي بمعناه الأوسع عربياً. وعلى صورة مكوّنات الشارع العربي، بوصفه الفضاء العمومي الملموس، يمكن أن نقيس مركّبات البيئة الثقافية ومنها المجلات، فهل ترى شوارع نشطة بغير ما هو استهلاكيّ؟ وهل ترى فيها من الجماليات ما يسرّ العين أو يطرب الأذن؟ وهل فيها نصيب من التعدّد والبوليفونية (تعدّد الأصوات) المتناغمة؟ ولو لم تكن مادة تلك الشوارع من الأحجار لرأيتها تذوي وتذبل كالمجلات، وما مادتها إلا أشدّ المواد هشاشة من نصوص وأفكار...
تنتظر المجلات، أيضاً، شريحة من المتلقين فلا تجدها، وحين يَضمر فعل التواصل الذي هو قوام المنتج المكتوب، تصبح المجلة بلا معنى حتى في أعين من أطلقوها، وإن كابروا. لكن إشكالية التلقي لا تعني مرضاً عند القرّاء فحسب، بل تشير إلى علل عند المثقفين ممن يُنشئون المجلات، فبعضها قد أتت من باب الوجاهة، وأخرى إشباعاً لنرجسيات، وفيها ما يعبّر عن الضيّق المختزل ويترك الرحب الفسيح، وإنّ مسحاً للمجلات في كلّ بلد عربي سيوحي بوجود عالمين بنسيجين مفهوميين مختلفين تماماً يسكنان الفضاء المكاني نفسه دون أن يفضي أيّ عالم إلى الآخر.
تلك القطيعة مما يخنق المجلات أيضاً، ولو قلّبت صفحات معظم المجلات الثقافية العربية لوجدت عشرات المقالات التي تستحضر التاريخ أو تشير إلى الفكر العالمي لكنها لا توصل القارئ إلى شيء من واقعه. ومما ابتليت به المجلات الثقافية أيضاً، تحويلها إلى سوق لتصريف بضاعة المعرفة، وهو ما تضاعف في القرن الحالي، وفيما كانت المستحقات المالية مجرّد حافز تحوّلت إلى هدف من وراء الكتابة، في شكل جديد من أشكال ارتباط المثقفين بالسلطة في تعدّد وجوهها، وفي المحصلة تتهاطل المشاركات على المجلات التي تدفع دون أن تنتظم في رؤية ما، ما يسرّع من ضمور جذرها المعنوي وصولاً إلى الموت.
لن تموت المجلات، ولكن الأدهى أن تستمر من دون أن تحيا...
ليست المجلات الأكاديمية، وهي فرع من فروع المجلات الثقافية، في منأى عن أسباب الموت العديدة، وإن أراحت بال المشرفين عليها تمويلات المؤسسة الجامعية، وتوسّلوا بمعايير مضبوطة لتنقية الصالح للنشر من شوائب العموميات والزخرفات، فقد تتحوّل إلى سلالم لتسلّق المراتب المهنية ولا تقدّم قيمة مضافة في المعرفة. وحين تسقط في هذا المطبّ تكون قد كتبت شهادة وفاتها، ففيم يجتمع المتخصّصون في مجلة دورية ما لم يضيفوا جديداً لاختصاصهم؟
بتلاحق أخبار توقفها، كأنّ المجلات تعبّر عن غربتها في عالم اليوم. كأنما تقول بأنها من زمن آخر لم يبق منه الكثير، ففي كلّ بلد عربي، من العراق إلى المغرب، تسمع عن مثقفين جعلوا خلال عقود النصف الأول من القرن العشرين من المجلات سنداً للجهود النهضوية، ثم التقت المجلات في النصف الثاني من القرن مع ترسّخ الصحافة الثقافية، فأثمرت عناوين هي اليوم مجرّد نوستالجيا.
وبتلاحق أخبار توّقفها، كأنّ المجلات تشير بأنها من الكائنات المرشّحة للانقراض، ولكنها في ذلك مثل الكتاب، فمنذ عقود طويلة وهو مرشّح للانقراض وما يزال حيّاً حاضراً في حياتنا متجدّداً، ينطبق عليه التعبير القرآني: "لا يموت فيها ولا يحيى". وكذلك لن تموت المجلات، ولكن الأدهى أن تستمر من دون أن تحيا...