نحن المغاربة
نحن المغاربة شعب يمجّد الماضي ويقدّسه، ونكاد لا نفخر بشيء كما نفخر بالتاريخ. لا أحد يعرف الطرق القديمة كما نعرفها نحن؛ طرق العودة التي نحبّها جداً، نحفظ منعرجاتها، نعرفها كما نعرف وجوهنا، ونطمئن لصمتها وصخبها على حدّ سواء. حتى هي تعرفنا! شجرة الصفصاف المتثائبة بجانب الطريق مثلاً، ما انفكت تظلّلنا وتمنع ضوء الشمس من أن يلفح أجسادنا الهزيلة وأرواحنا المثقلة بالماضي البعيد.
مثقلون نحن بالخرافات وبالأساطير التي يزكيها هذا التاريخ، ولا نتنازل، مهما حدث، لنتخلّى عنها. مثقلون نحن بهاجس الخوف على هذا التاريخ، إذ نخشى أن تندثر هذه الأمجاد وتُنسى، ومن ثمّة نصبح عراة أمام الغد، كلّما سُئلنا: من أنتم؟ وماذا تريدون؟.
ولأنّنا نخشى أن يضيق الغد بنا، فإننا لا نتقدّم نحوه. نحنّ له، ولكننا لا نثق فيه، لأننا ننظر إليه دوماً على أنّه غرّ وطائش، لا يعرفنا ولا نعرفه. نخاف أن يجعلنا نكرة ثم يطلب منّا بعد ذلك أن نعرّف عن أنفسنا من جديد. نخاف أن يطلب منّا أن ننسى الأمس ونرمي بما هو قار في سبيل ما هو محتمل. نحن المغاربة لا نقايض أبداً ما هو قار مقابل ما هو محتمل. لهذا يسكن كثير منّا الماضي، ويطمئنون إليه، إذ هو لا يسألنا أسئلة مزعجة، ولا يلزمنا بأن نحثّ الخطو إلى الأمام، لأنه يعرفنا جيداً، يعرف أننا شعب يتوّجس ممّا أمامه، بل ويهرب منه؛ شعب قد يكون التقدّم بالنسبة إليه "هو جسر الرجوع إلى البربرية".
لسنوات وسنوات طويلة، عاش قسم من المغاربة تحت رحمة أفكار متحجرة، صلدة وعقيمة، تغذّت على خوفهم وعجزهم، وأنتجت "شعباً بلا أحلام، وبلا أهداف"... هذا هو أبعد ما ننظر إليه، أحلامنا لا تتجاوزه ولا تتعالى عليه. نهترئ على الطريق ببطء كما تهترئ التحف القديمة التي لا يلتفت إليها أحد في الممر، ولا عزاء لها إلا التطفّل على كلّ من هو قادم وراحل.
مثقلون نحن بالخرافات وبالأساطير التي يزكيها هذا التاريخ، ولا نتنازل، مهما حدث، لنتخلّى عنها
نسي البعض حتى كيف نرفع رؤوسنا. ففي البيت، يحني أمام رب الأسرة. في المدرسة، يحني أمام المدير والأستاذ. في الشارع، يحني أمام رجل السلطة. وحتى بيننا وبين أنفسنا "نحني جباهنا للآلهة".
ما أحوجنا إلى النور لننهي هذا الليل الأسود الحالك المنجبس من ذواتنا. نحتاج إلى نور لا نتآمر على إخماده قبل أن يولد. نحتاج إلى نفس جديد، إلى ريح تعصف بهذه الأفكار اليابسة التي تلتصق بنا كما تفعل جلودنا. نحتاج إلى أعمال كرواية "المغاربة" لعبد الكريم جويطي. هذه الرواية التي صدرت عام 2016، وتروي قصة "محمد الغافقي" الذي أصيب بالعمى، ثمّ قضى مدة طويلة في محاربته. وترصد، في الوقت ذاته، حكايات تدور حول شخصيات عدّة تتداخل بحكاية محمد التي ستتغيّر "نظرته" إليها بعد أن أصبح ضريراً. ومن خلال تجربة العمى هذه يتناول الكاتب ممارسات اجتماعية وسياسية للمغاربة.
تأتي هذه الرواية هنا كانتفاضة، كمحاولة للتحرّر من كلّ الإيديولوجيات والأوهام الوطنية الخانقة والثقيلة التي ما انفكت تسحبنا للوراء، محاولة تجاوز الأفكار الراكدة والمتثائبة، وضرب بسنوات من التقاليد الجوفاء والرؤوس الفارغة عرض الحائط.
نصوص كثيفة المعنى لا يتجاوزها المرء بسرعة، ونقد لاذع هو كلّ ما ينقصنا، نقد لا يعمد إليه الكاتب بغرض التذمّر، ولكن بغرض بعث شعور بعدم الرضا عن الذات، وبشكل مستمر، لأنّ الرحلة تتوقف دوماً هنالك؛ حيثما أصبح الإنسان راضياً عن نفسه.
نسينا حتى كيف نرفع رؤوسنا. ففي البيت، نحنيها أمام رب الأسرة. في المدرسة، نحنيها أمام المدير والأستاذ. في الشارع، نحنيها أمام رجل السلطة. وحتى بيننا وبين أنفسنا، نحني جباهنا للآلهة
يحسن جويطي القبض على أحداث وتصرفات تبدو في العادة عابرة وعشوائية، ثم يفسّرها على نحو يجعل منها أشياء مدهشة ويعطيها دلالة ومعنى عميقين. وليستطيع الكاتب أن يكتب بهذه الطريقة يجب أن ينسلخ عن نفسه ويسلّمها تماما للغة. واللغة هنا هي التي تتحدث، ينفلت النص من سلطة الكاتب، وينفلت الكاتب نفسه من سلطة الذات، يصبح متعدّداً، كثيراً، كثيفاً، ثملاً ويمتلئ صوته بصرخات مكتومة، وبكاء حار لأطفال جياع متعبين، حشرجات أسلافه البدائيين وعراكهم الحاد والقاسي ضد الزوال، عواصف فتكت بحقولهم الصغيرة البائسة، وأغنيات كانوا كلّما استمعوا إليها صاروا خالدين.
هذا هو ما يفعله المرء حين يكتب؛ إنّه يحرّر أشياء لا يعرف بوجودها، ويتواطأ مع قوى خفية ومجهولة تسعى لتخرج دفعة واحدة من جوفه. جويطي لم يتقاعس هو الآخر عن أداء واجبه، جهر بما تمّ السكوت عنه لوقت طويل، كتب بشجاعة وبدم حار، دعا إلى مساءلة ما نتخذ منه مسلمات، إلى البحث الجدي في الأسباب: أسباب حقيقية واقعية ملموسة بدلاً من الخرافات والأساطير واللعنات التي ما انفكّ المغاربة يبرّرون بها فشلهم وهزائمهم.
بإمكاننا أن نجزم بأنّ عبد الكريم جويطي قد أحبّ المغرب بانتقاده، بالسخرية منه، وبعدم السكوت عن وضاعات بعض المغاربة.
إلا أنّه، مهما بلغت رواية جويطي وغيرها من العظمة والأهمية، لا يمكنها أن تقدّم لنا سوى تمثلات عمّا قد يكون الطريق الصحيح، إذ لا تستطيع أبداً أن تحملنا على السير فيها. بإمكاننا، نحن فقط، أن نقرّر إذا ما كنّا شجعاناً بما يكفي كي لا نتعامى كلّما رأينا قناعاتنا تأفل أمامنا وتندحر. أن نكون شجعان بما يكفي لنغيّر ونجدّد وننهي كلّما يستدعي الأمر ذلك. أن نخطو خطوة جادة إلى الأمام، والأهم، أن نتحلّى بالإرادة اللازمة للسير في الطريق إلى منتهاها. وإلا فلندع النهايات تؤرق غيرنا، ولنحلم كما تحلم الشمس، كلّما تمطّت في الأفق بردائها الشاحب في المساء، بألّا نغيب.
بيدنا مجد المغرب وانحطاطه... فإما أن نكون أو لا نكون!