مُلْحَات من صدى "طوفان الأقصى"

03 فبراير 2024
+ الخط -

المُلْحَةُ: هي الشّيء اليسير، يُقال: أصبنا مُلْحَةً من الرّبيع، أي: شيئًا يسيرًا. والمُلْحة والمُلَحَةُ: الْكَلِمَةُ المَليحة. وأَمْلَح: جَاءَ بِكَلِمَةٍ مَليحة. وتُجمع على: مُلَحْ ومُلُحَات ومُلْحَات. وهنا أقدّم بعضاً من هذه المُلْحَات التي أوحت بها معركة "طوفان الأقصى" التي لا يزال أوارها مشتعلاً حتى لحظة كتابة هذه السطور.

فوضى على باب القيامة

يزداد المشهد قتامةً بزيادة عدد الشهداء الذين يصعدون إلى ربّهم كلّ يوم منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بل كلّ ساعة تقريباً على أرض غزّة، وكذلك الضفة الغربية. 

يزداد المشهد قتامةً مع صلف العدو المستعلي بقوته كأنّها بلا حدود، كذلك هو نفاق أميركا التي لا ترى مجزرة على أرض غزّة! ويزداد المشهد قتامةً مع الصمت المطبق حول ما يجري من القريب قبل البعيد، إلا ما صدر عن  أحرار العالم في أرجاء المعمورة.

بيدَ أنّ الصبر حبله طويل عند أهلِ الرباط، كطولِ حبل كذب الحكام العرب، والرجال هنالك صامدون ما لانت لهم قناة، حيث تسيل الدماء الطاهرة غزيرةً، محققةً معنى لفظة طوفان.

يزداد المشهد قتامةً مع صلف العدو المستعلي بقوته كأنّها بلا حدود، كذلك هو نفاق أميركا التي لا ترى مجزرة على أرض غزّة!

كلّ هذا جعل دعوات الاستغاثة من الصدور المظلومة تتعالى إلى السماوات العُلى متوازيةً مع ارتقاء أرواح الشهداء على كلّ أرض فلسطين، إذ تنطلق التظاهرات الراجلة في كلّ أرجاء المعمورة منددةً بهذا الطغيان الذي لا حدّ له، لكن الساسة لا يسمعون النداءات، ولا ما تطلقه منظمة الأمم من مناشدات. فما ظلّ على أبواب القيامة؟

البحر الأخطر

تقول أميركا إنّها لا تريد توسعة نطاق الصراع، لكن أفعالها ستجعل الصراع يلف الكرة الأرضية، لذا ستشتعل جبهة اليمن أكثر، وسيصبح البحر الأحمر هو البحر الأخطر لملاحة سفن الدنيا؛ فلن يضع اليمني (جَنْبِيَتَه) خوفاً من الأساطيل القادمة، فنحن أمّةٌ لو جهنّم صُبّت على رأسها واقفة، ما حنى الدهر قامتها أبداً، كما يقول مظفر النواب.

سيمتزج "الزامل" بالأغنية الوطنية، كما تمتزج مشاعر القومي مع الإسلامي مع الإنساني تجاه معركة غزّة.

أعرف أنّ ما يقوم به اليمن يمثل مغامرة غير مأمونة العواقب، و"قد بدا الوجه" كما تقول أمثالنا. ولكن من ناحية أخرى، ماذا تبقى لليمني كي يخسره، بعد حرب تسع سنوات عجاف وهدنات لا تُعرف ملامحها؟

قولوا عنها مزايدة. قولوا عنها مغامرة. قولوا ما شئتم، المهم أنّ اليمن تحركت حين تخاذل الآخرون

ومن ناحية ثالثة، ما يجري على أرض غزّة من مآسٍ قد أخرج شعوب الأرض في تظاهرات لا تنتهي، فهل نشذ نحن اليمنيين عن هذه الشعوب؟

نحن شعب عاطفي حتى الثمالة، وأظن أنّنا لا نزال نحمل بقيةً من نخوةٍ ولو عنترية، عبّرت عن نفسها بإشعال البحر الأحمر.

قولوا عنها مزايدة. 

قولوا عنها مغامرة. 

قولوا ما شئتم، المهم أنّ اليمن تحرّك حين تخاذل الآخرون.

قال المتنبي مادحاً أحد رجال اليمن:

فما البحرُ في البَرِّ إلا نَداك... وما الناسُ في الباسِ إلا اليمن

صدقوني لن تذهب دماء أكثر من عشرة آلاف طفل غزّي هباءً، وستمتد أيدي المساعدة من حيث لا يدري أهل فلسطين، ولا يدري حتى العرب. فالذي دفع جنوب أفريقيا إلى لاهاي، هو ذاته من جعل اليمنيين يلتفتون إلى مضيقهم المندب، الذي ندبهم للتصعيد مهما بلغت الخسائر. وهو مَنْ أخرج شعوب الغرب للتظاهر من أجل مستضعفي فلسطين عندما خذلهم الكل، فلا يدري أحد بما في لوح الغيب.

كل القضايا 

ما يثيره الإعلام العربي هذه الأيام من قضايا، غير الحرب على غزّة، هو نوع من الإلهاء عمّا يجري، بل إنه تخدير موضعي لأناسٍ، هم في الأصل مغمىً عليهم. 

فما يجري في أرض الرباط وارتباطه الوثيق بدولنا يمثّل القضية الآن؛ لأنّها قضيتنا شئنا أم أبينا، وذات خيوطٍ متينةٍ بنا وبمصيرنا العربي والإسلامي، فنحن كلّنا في الهم شرقُ، كما يقول الشاعر أحمد شوقي. 

لا جدوى من كلّ فكر، ولا فن، ولا إبداع، إذا كانت إنسانيتك لا تتحرّك لنصرة الإنسانية التي تتعرض للإبادة

أنا شخصياً كلّما حاولت الهروب في منشوراتي عن ذلك، أجد نفسي أعود إلى الموضوع نفسه، لأنّي لا أظن أنّ القضية "هامشية"، فلا أكتب عنها ولا عن تطوّراتها، إنها، ببساطة، نحن بشكل أو بآخر، أو بكلّ الأشكال التي نتصوّرها.

وأرى أنّه لا جدوى من كلّ فكر، ولا فن، ولا إبداع، إذا كانت إنسانيتك لا تتحرّك لنصرة الإنسانية التي تتعرّض للإبادة.

رسالة إلى (أبي عبد الله الصغير)

على تلة تطل على أراضي غرناطة، وقف أبو عبد الله الصغير (آخر ملوك الاندلس)، بعد تسليم غرناطة، يبكي ليسمع أمه الأميرة عائشة الحرّة تقول: 

ابكِ مثلَ النساء ملكاً مضاعاً... لم تحافظ عليه مثلَ الرجالِ

فكتب صديقي الشاعر العراقي مهند ناطق الحديثي:

لستَ وحدك..

كلنا لسنا رجالاً

أو نساءْ

فالنساءُ

في فلسطينَ تقاومْ

غيرَ أنّا

كلنا.. محضُ هزائمْ!

ماذا يلوح في الأفق؟

صنّفت معركة "طوفان الأقصى" العالَم إلى أنواع متباينة؛ فظهر نفاق أغلب أنظمة الغرب السياسية، التي كفرت بكلّ ما ظلّت تنادي به من حقوق الإنسان وخلافه، وسطع خنوع أنظمتنا العربية الفظيع، فلم تعد تطلق حتى كلمات الشجب والتنديد والاستنكار المعهودة أيام الزمن الجميل!

وعلى الرصيف الآخر، ارتفعت أصوات حرّة، لا تزال تعيش معنا في هذا العالم القبيح، لعل جمهورية جنوب أفريقيا خير مثال على ذلك. بيد أنّي أجد الجميع سادراً عن المعركة القادمة التي لن تبقي ولن تذر.

أية معركة؟

استمرار معركة "طوفان الأقصى" بهذه الوتيرة، التي أراها حرباً لا معركة، بل صراع حضارات، سيشعل معركة هرمجدون الأسطورية، وأظنّنا نعيش نذرها الأولى، وما يجري الآن مجرّد بروفات في التحضير لأتونها، وقريباً سيلتقي الشرق بالغرب، ولكنه سيكون لقاءً دامياً، بل طاحناً للجغرافيا، وستكون "أم المعارك" بحق.

فليرحمنا الله برحمته.  

عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري

مدونات أخرى