من "طُوفان الأقصى" إلى الطُوفان الطلّابي
بعد مرورِ أزيد من مئتي يوم على انطلاقِ عملية طوفان الأقصى، والحرب الضروس التي شنّها الكيان الصهيوني على قطاع غزّة وأهله؛ شهدت العديد من الجامعاتِ العالميةِ في مختلفِ البلدان الأوروبية، كبريطانيا وفرنسا وغيرهما، وكذا الأميركية والأسترالية، تظاهرات عارمة لمختلفِ الأقسام الأكاديمية، وتمدّدت إلى بلدان وجامعات أخرى مثل الجامعات اليابانية والبرازيلية.. بما يشير إلى ولادة رؤيةٍ جديدةٍ تجاه ما يمارسه الكيان الصهيوني وحلفائه الداعمين، تُندّد بالتكالب الذي سارت عليه دولهم إزاء الشعب الفلسطيني، وهو تغيّر جذري في إعادةِ قراءةِ المشاهد التي دأبتْ على الهجوم عليها مختلف وسائل الإعلام الغربية والدوائر السياسية ومراكز الأبحاث التابعة لها، والتي راحت تروّج لأسطوانةِ معاداة السامية، مع كلِّ شاكٍ أو رافضٍ للظلم الصهيوني أو دارسٍ منتقد للسيرورة العامة التي أسّست لها الحركة الصهيونية منذ مؤتمر بازل بسويسرا.
وهذه الاحتجاجات المتواصلة تجاوزت كلّ القوانين والتشريعات التي وضعتها اللوبيات المتحكّمة في عالمِ الاقتصاد والإعلام، خاصة وأنّ هذا الطوفان الطلّابي خرج بغير استئذانِ أحد من أروقةِ الجامعات العريقة؛ بطلّابها، وأساتذتها، ومنتسبيها، مما يؤكّد على احتمالية بروز نموذج جديد في تفسير ظاهرة الكيان الصهيوني، وإعادةِ صياغة كلِّ السرديات التاريخية لنشأته، مرورًا بالحروب التي خاضها في فلسطين وما يحيط بها، ومدى شرعيتها القانونية، بل والوجودية.
مشهد جديد
وعي بالأزمة الفكرية
يبدو من خلال ما سبق أنّ العقل الأكاديمي الغربي الذي شكّل مرحلة قديمة عُرِفت بعصرِ النهضة، مرورًا بلحظةِ التنوير، انتقالًا إلى الثورة الصناعية، وما أعقبها من مظاهر وسلوكيات أدّت إلى بروز الثورة التكنولوجية، وما تلاها من ثوراتٍ شملت ميادين مختلفة؛ يبدو أنّها تُعيد طرحًا فكريًا جديدًا، وفلسفةً بدأت على إثرها تُعيد قراءة الموروث الثقافي والسياسي، ويتأسّس جنينيًا مع (الظاهرة اليهودية) بتعبير مالك ابن نبي؛ فاليوم أضحت هذه الظاهرة على مشرح النقد والتحليل والمراجعة لكلِّ الأدبيات والتصوّرات المرتبطة بهذا الكيان منذ نشأته سنة 1948؛ فلم يعدّ من المستساغ قبول السيطرة والهيمنة العسكرية، ولا الاعتداء على دولٍ أخرى، فضلًا عن الدمار والإبادة مثلما يقوم به الكيان الصهيوني حاليًا؛ فبالرجوع إلى اللحظاتِ التي انبثق فيها النور الذي بشّر العالم بعصرٍ جديٍد على يدِّ فلاسفة الأنوار، وعلى غرارِ ما فعله إيمانويل كانط، وجاك أندريه نيجون، وجان بودان، وجان جاك روسو، وجان لو رون دالمبير، وجبريل فاغنر، وجورج بيركلي، وجورج فيلهلم فريدريش هيغل، وجورج كريستوف، وليشتنبرغ وغيرهم، الذي سعوا بجهدهم لانتشالِ العالم من تبعاتِ عصور الظلام؛ فإنّ العقل الأكاديمي الغربي بدأ يتساءل، كما ظهر على لافتات الطلاب المرفوعة في الاحتجاجات، عن مدى تحقّق شعارات الأنوار وإرثهم الفكري الذي ورثوه من الفلاسفة الذين تمّ ذكرهم، والذين شكلوا المرجعية الكبرى للعقل الغربي؛ فتضمنت هذه اللافتات شعارات من قبيل: "المساواة بين الناس"، و"حقوق الإنسان الفلسطيني"، و"الحرية لفلسطين" مع وضعها في مقابلة الإجرام الذي تمارسه الآلة الصهيونية، فكيف يجتمع النقيضان في آن واحد؟
نحو انتصارٍ إنسانيٍ للقيم
لا شك أنّ إدوارد سعيد في أطروحة "الاستشراق"، قد دحضَ الكثير من النظريات الفلسفية التي استندت عليها الرؤية الأوروبية في خلقها لجهاز مفاهيمي يؤطر العالم الإسلامي ويكبّله من الانعتاق من الأسر، إلا أنّ مشاهدة الكثير الأحداث، وتواتر نقل الصورة بشكلٍ حي ومباشر لمختلف الأحداث منذ انطلاق عملية الطوفان، قد جعلت الأنظار والضمائر تتجه وتتساءل حول علاقةِ الدول العظمى بدول العالم الإسلامي، وخاصة بفلسطين التي شكلت محورًا للصراع الدائر بينهما؛ فما زالت النظرية التجريبية التي يُنطلق منها لتأكيد الفرضية أو نفيها، تسيطر على العقل الغربي في المختبرات العلمية منذ قرون، بل وتؤطر الفلسفة العامة تجاه الكون والحياة والمجتمع، وبالتالي انتقلت لتصبح بنيةً لقياس كافة الظواهر الإنسانية والاجتماعية؛ فيمكن القول حينئذ إنّ الانتقال من عالمِ النظرية الى البعد التطبيقي، أو من الفلسفة إلى المجتمع الذي انعكس بدوره على حالة العلاقة البينية القائمة بين الضفةِ الشمالية والجنوبية، أضحت هي الأخرى مصدرَ قلقٍ وانتباه شديدٍ لمجموع الزعامات واللوبيات الاقتصادية للدول الغربية بعد مساندةِ الكثير منها للكيان الصهيوني، مما يؤكد على مخاضٍ عسير في الرأي الغربي، وصل إلى مستوى الأنظمة السياسية لها، ومما قد يُولّد هذا المخاض اختلال الكثير من الموازين الدولية بين الشرق والغرب من جهةٍ، والشمال والجنوب من جهةٍ أخرى، يقودها العقل الأكاديمي الجامعي، بما يؤسّس لميثاقٍ إنسانيٍ قيمي دون سيطرة عسكرية أو فكرية، وإنّما تسعى جاهدة نحو تخليق الحياة العامة المشتركة بين الناس دون عرق أو لون أو دين أو جغرافية أو جنس، وإنّما سعي حثيث نحو العمل، ومحاسبة عسيرة لكلِّ من يقوّض هذا الميثاق، وعلى رأس ذلك محاسبة الإجرام الصهيوني؛ وما الطوفان الطلّابي سوى نقطة البداية لذلك.
يبدو من خلال ما سبق أنَّ هذه الاحتجاجات العارمة التي قام بها الطلّاب من كلِّ جهةٍ، تؤسّس لتحوّل فكري جديد في الغرب، يبدو أنّه في بداياته، قوامه بناء المشترك الإنساني.
وعلى سبيلِ الختام، يمكن القول إنّ الطوفان الطلابي الذي بدأ اليوم (وهو لا شك نتيجة طبيعية لطوفان الأقصى)، قد يتحوّل إلى طوفانٍ سياسي وقيمي يغيّر الكثير من مُجريات التاريخ.