من صيد فيسبوك (1)

08 مارس 2021
+ الخط -

كتب صديقي على صفحته في فيسبوك سطوراً يعبر فيها عن حزنه لأنه رأى فيديو يتحدث فيه طفل عن أبيه وأمه الصحفيين المحبوسين ظلماً، لأن ضابطاً منحطاً لم يعجبه ما كتبوه عن اعتقال أصدقائهم، فقرر اعتقالهما ليتعلما أهمية الرضا بالظلم، وكالعادة حين قرأت ما كتبه صديقي لم أملك سوى "اللايك" العاجز قليل الحيلة، وقبل أن أواصل طريقي نحو "بوست" آخر في "التايم اللاين" المليء بالمظالم والأحزان، لفت انتباهي أن شخصاً ما يبدو أنه يعرف صديقي جيداً، قرر أن يعلق على سطوره الحزينة قائلاً: "أنا ملاحظ إنك الفترة اللي فاتت بتكتب كتير عن المحبوسين وإنهم لازم يخرجوا، أتمنى يكون ده لوجه الوطن وما يكونش ليك مصلحة في اللي بتقوله ده وربنا يحفظ مصر".

كانت مناعتي على ما يبدو في أضعف حالاتها، لأنني ضبطت نفسي متلبساً بالتفكير في طبيعة الإنسان الذي يمكن أن يتخيل وجود مصلحة شخصية لدى إنسان طبيعي أحزنته دموع طفل مشتاق لأمه وأبيه فقرر أن يفُكّ عن نفسه بكلمتين يعلم قلة تأثيرهما، بل وأخذت أسأل نفسي لماذا لم يتأثر شخص غليظ القلب مثل هذا الذي أحزنه رفض الآخرين للظلم بكل ما يحدث في العالم من موت ومرض ومصائب، خاصة وأن فكرة فتك الموت بالنفوس لم تعد تحتاج إلى بيانات إحصائية ورسوم جرافيكية، بل تحتاج إلى جولة سريعة في حساباتك الشخصية لتدرك أن الدنيا فانية، فلماذا إذن استكثر هذا الشخص على صديقي حزنه، وإذا كان لا يرغب مشاركته في حزنه ولو بلايك أو تعليق مجامل، فلماذا لم يقرر إدارة وجهه بعيداً ويتجاهل ما قاله، بدلاً من أن يستكثر على غيره رفض الظلم ومشاركة المظلوم في حزنه؟

ولأن النفس مهما كانت هشاشة حصونها متعودة بحكم التجارب على تصحيح مسارها أولاً بأول، لم يكن غريباً أن تقودني خلال تصفحي للأخبار إلى خبر يتحدث عن متطرفين بيض في الولايات المتحدة، فكروا في استغلال فيروس كوفيد-19 لتعزيز وهم تفوق العرق الأبيض، فحاولوا تعبئته في زجاجات يتم رشها على الملونين المقيمين حولهم، وهو ما رصدته المباحث الفيدرالية الأميركية في مراسلات جرت بين هؤلاء على تطبيق تيليغرام في 17 فبراير 2020، قبل أن يستفحل انتشار الفيروس في أميركا ويتضح أن عدواه لا تفرق بين أبيض وأسود، وهو ما أفشل حربهم الجرثومية المرتقبة في مهدها.

بطريقة درامية مهيبة، بدأ "سياتّ المشتشار" حديثه لمتابعيه بأنه ليس في حِلّ من الإعلان عن مفاجأة إنجاز علمي حققته مصر في ملف فيروس كورونا المستجد

حين قرأت ذلك الخبر شعرت أنني يجب أن أعود إلى صفحة صديقي لأبحث عن صديقه المواطن الرقيق وأشكره لأنه اكتفى بصياغة شكه في حزن صديقي بأسلوب مهذب، ولم يقم بالإبلاغ عنه أو لم يطلب رشه أو حقنه بفيروس كورونا هو والمساجين وأطفالهم ومن يتشدد لهم، متمنياً أن يديم الله عليه نعمة الفاشية الرقيقة المهذبة، لكن الطاقة التي كانت قد تبقت لدي من تصفح الأخبار والحسابات الشخصية للأصدقاء لم يعد فيها ما يكفي لذلك المشوار، فعدلت عنه مكتفياً بحمد الله على أنني برغم تدهور أداء نفسي وضعفها اللحظي، أظل أفضل من أصدقاء من أبناء أيامي وتجاربي، قرأت لهم سطوراً حماسية يقولون فيها إن فيروس كورونا يشكل فرصة جديدة لبناء عالم جديد تستفيد فيه الإنسانية من الدروس المؤلمة التي عاشتها قبله، فاللهم لك الحمد، لأن الضعف اللحظيّ أرحم بكثير من البلاهة المستمرة.

...كنا وقتها في صيف 2020، وكنت أتمشى في جنبات فيسبوك المليئة بالخوازيق والنُقَر، حين وقعت على "بوست" كتبه شخص يزعم أنه مستشار حالي وسابق لأكثر من عشرين جهة حكومية وأهلية في مصر، ولكيلا يشكك في كلامه أحد وضع على صدر حسابه ما يفيد بتأييده الكامل والعميق للرئيس عبد الفتاح السيسي وولائه لأجهزة الجيش والشرطة والقضاء التي تمنى لها النصر المبين على الخونة والعملاء وأعداء الداخل والخارج.

بطريقة درامية مهيبة، بدأ "سياتّ المشتشار" حديثه لمتابعيه بأنه ليس في حِلّ من الإعلان عن مفاجأة إنجاز علمي حققته مصر في ملف فيروس كورونا المستجد، وأن وزيرة الصحة ذهبت إلى الصين بتعليمات من الرئيس السيسي لكي تقدم ذلك الإنجاز هدية من مصر للصين والعالم، وبرغم أن ما كتبه كان يتناقض مع فكرة أنه "ليس في حِلّ من الإعلان عن الإنجاز"، لكن أحداً من متابعيه لم يتوقف عند ذلك التهديد للأمن القومي، بل انقسموا ما بين من يطالبه بالتكتم على الخبر لكيلا يتآمر الإخوان والطابور الخامس والخونة على المفاجأة ويقوموا بإحباطها، وما بين من يدعو له ويشكره على بشراه مقسماً له أنه أجهش بالبكاء حين قرأ أو هتف بعزم ما فيه بحياة مصر ورئيسها.

ووسط ذلك الخضمّ من العواطف، ارتطمت بعاقل كنت أظن أنه ضلّ طريقه إلى "الأكاونت"، لأنه كتب بعتاب خفيف لا يوجب الغسل قائلاً: "إزاي الكلام ده والدول المتقدمة نفسها محتاسة في الموضوع"، وسرعان ما اتضح أن من افترضت فيه العقل لم يضلّ طريقه، بل هو صديق قديم للمستشار اللوذعي الذي شخط فيه بغضب لا يخلو من الود قائلاً: "انت متوقع مني بعد أربعين سنة خبرة إني أقول كلام أنا مش متأكد منه"، ومع أنني لم أفهم من الألقاب التي رصّع المستشار حسابه بها ما هو مجال خبرته، إلا أنني لم أفكر في السؤال عنها، وسارعت إلى الخروج من "الأكاونت" ذاهباً لغسل يدي سبع مرات كل مرة ثلاثين ثانية بالماء والصابون، داعياً من كل قلبي ألا تكون هذه طريقة تفكير من يدير ملف كورونا في مصر، مفكراً أننا أصبحنا نعيش بجد لا هزل فيه الأيام التي يجب أن تسأل الله فيها السلامة للمخطوفين والخاطفين.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.