من ذكريات الشتاء.. تضمين أم تناصّ أم تلاصّ؟
دفن وجهه في راحتيه مدّة، ثمّ أقبل على الناس. له سمت العلماء، وإن لم يخلُ من حدّة أحياناً. تحلّق حوله الكثيرون في حلقات تزيد دقيقة بعد أخرى. ينظر إليه أغلبهم على أنه مكين في العلم والأدب، صورة مصغّرة من الشيخ الشعراوي، ويرمقه آخرون بنظرات لا يُخفى لهيبها غيرةً، وربما حسداً، لهيب لم تخمد جمراته رغم المطر. قبلها بسنوات، كنت أجلس في آخر الصفوف لصغر سني وغفلتي عن مكانته، أنضم إليهم، لا لشيء إلا إرضاءً لأبي، فهو صديق هذا الحكّاء ورفيق عمره، وقليلاً ما يفترقان.
رصيد صاحبنا (في نفوس محبيه وشانئيه) يزيد على الأيام، ويبدو أنّ أحدهم لم يعد يحتمل تلك الكاريزما، فأعلن ذلك صراحة، وفي توقيت رآه مثالياً، لفضح هذا المدعي صاحب الشعبية الواسعة من دون مسوّغات. رفع الموتور عقيرته متهانفاً: "يا محترم! من خدعك وقال لك إنّ أمل دنقل هو القائل "وطني لو شغلت بالخلد عنه"؛ أما سمعت بأمير الشعراء أحمد شوقي؟ ألهذا الحد تستخف بهؤلاء منذ سنوات؟ متى ترعوي عن هذه العبثيات؟!
تكهرب الجو، وارتفعت أصوات تُسكت هذا الحانق، وأخرى تشدّ على يده وتؤيده بالتلميح والتصريح. كلّ ذلك، وصاحبنا يدفن وجهه بين يديه، إلى أن هدأت الأصوات وتراجعت فورة الفريقين قليلاً، وظنّ المعترض أنه نال من الرجل وأثّر فيه للحدّ الذي لم يحَر معه جواباً. مسح صاحبنا وجهه بيمينه مستغفراً محوقلاً، وهو يقول: "تعست العجلة"، ألم يقل سيدنا لعتبة بن ربيعة: قل يا أبا الوليد أسمع!
ردّ الحاضرون في نفَس واحد: صلّى الله عليه وسلّم، واستطرد صاحبنا: "أمل دنقل قال في قصيدة عنوانها "خطاب غير تاريخي على قبر صلاح الدين" هذا البيت (وطني إن شغلت بالخلد عنه/ نازعتني -لمجلس الأمن- نفسي)، وقد أخذه من أحمد شوقي الذي يقول (وطني لو شغلت بالخلد عنه/ نازعتني إليه في الخلد نفسي)، وهذا في الأدب يسمّى التضمين، بل إنّ دنقل في القصيدة ذاتها يقول (جبل التوباد حياك الحيا/ ورعا الله ثرانا الأجنبي)، أخذه أيضاً من شوقي إذ يقول: (جبل التوباد حياك الحيا/ وسقا الله صبانا ورعا).
منذ القدم عدّ العلماء التضمين ضمن سرقات الشعر، والمحدّثون يطلقون عليه اسم التناص
التفت الناس إلى صاحب الجلبة، رمقوه بعيونٍ حمراء يجزّون على أنيابهم، وراح هو يلملم ما تبعثر من ماء وجهه، وأشار إليه أناس بالصمت. لم يغب ذلك عن المتحدّث، ولم يشأ أن يعطي المسألة أكبر من حجمها أو أن يتباهى على المغلوب، إذ يكفيه ما أراقه بيده من ماء وجهه، ولعل المتحدث يضع قول الإمام القحطاني في نونيته (وإذا غلبتَ الخَصْمَ لا تهزأ به/ فالعُجْبُ يُخمدُ جمرةَ الإحسانِ) جلدةً بين عينيه، لذلك انتقل بالحديث 180 درجة، ملطفاً الأجواء، مترفقاً بالعجول؛ فماذا قال؟
ضحك صاحبنا (ولا تنسَ أنه حكّاء) وهو يقول: السهو يقع، وجلّ من لا يسهو، أذكر أنّ شيخنا كان يخبرنا قصصاً قريبة مما حدث الآن، جرت بين أساتذة أجلّاء مثل الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي والشيخ عبد المتعال الصعيدي والسباعي بيومي والدكاترة زكي مبارك، وغيرهم وغيرهم، بل إنّ العلماء منذ القدم عدّوا هذا التضمين ضمن سرقات الشعر، والمحدّثين يطلقون عليه اسم التناص.
وأضاف الحكّاء: لعلّ موقفًا شبيهاً بما نحن فيه، حدث في القرن الثاني الهجري. حينها، تنامى إلى سمعه سؤالُ مستغرب: كيف؟ ولماذا القرن الثاني على وجه التحديد؟ دون أن يلتفت إلى مصدر السؤال واصل كلامه: لو سألنا أيّ شخص يهوى الشعر: مَن القائل: (إن العيون التي في طرفها حور)؟ لأجاب قبل أن نُكمل الشطر، من الأساس، إنه جرير بن عطية (ت 110هـ)، ومع ذلك هذا أبو معاذ بشار بن برد (ت 186هـ) والشطر، لا لا! البيت كله في قصيدة له، ولا يفوتكم أنّ أبا معاذ كان صبياً صغيراً، وجرير في قمّة الشهرة وذروة المجد، وهجا بشار الهاوي جرير بن عطية المشهور، في محاولة لرفع أسهمه، لكن أبا حزرة (جرير) لم يعره اهتماماً.
ربما تجاهل الشاعر جرير لبشار بن برد، ترك ندوبًا غائرة في العقل الباطن لهذا الأعمى المرعث، فتخيّل أنه قابل جنيّة وطلب منها أن تغني له
ربما ترك تجاهل جرير لبشار ندوباً غائرة في العقل الباطن لهذا الأعمى المرعث، فتخيّل أنه قابل جنيّة وطلب منها أن تغني له قصيدة لجرير، ففعلت، فاستزادها أخرى لجرير أيضاً، لكنها قالت له: ما رأيك في ما هو أحسن من ذلك؟ ثم غنت له قصيدته هو، فكأنها انتصرت له على جرير، أو انتصر هو لنفسه من جرير، والحوار بين بشار والجنيّة هو:
وذات دلٍّ كأن البدر صورتها/ باتت تغني عميد القلب سكرانا
إنّ العيون التي في طرفها حورٌ/ قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
فقلت أحسنتِ يا سؤلي ويا أملي/ فأسمعينا جزاك الله إحسانا
يا حبذا جبلُ الرَّيانِ من جبلٍ/ وحبذا ساكنُ الرَّيانِ من كانا
قالت فهلا فدتك النفس أحسن من هذا/ لمن كان صبّ النفس حيرانا
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة/ والأذن تعشق قبل العين أحيانا
فقلت أحسنتِ أنتِ الشّمسُ طالعةٌ/ أضرمتِ في القلب والأحشاءِ نيرانا".
هلّل الحاضرون، لدرجة أنّ بعضهم رفع عقيرته: "ده احنا نشكر الأستاذ فلان اللي فكرك يا عمنا بالقصة دي!". وجبراً للخاطر، واستمالة للمغتاظ، وسلاً لسخيمة قلبه ووحر صدره، جامل الحكّاء بابتسامة معبّرة: "طبعاً، أومال! ما هو الكلام بيجيب بعضه، ولولا كده ما جه على بالي قصة بشار والجنية، كلكم خير وبركة".
أذكرتني ابتسامته بقول الإمام الشافعي:
وأُظهرُ البِشرَ للإنسانِ أُبغضُه/ كأنما قد حشى قلبي محباتِ
النَّاسُ داءٌ وداءُ النَّاسِ قُربُهم/ وفي اعتزالِهمُ قطعُ الموداتِ.
يومها، طرقت كلمات التضمين والسرقات الشعرية والتناصّ سمعي للمرة الأولى، لم أفهم معناها، ولربما اختزنتها الذاكرة، وكان أوّل ما درسته منها في المقرّرات البلاغية التضمين والاقتباس، ثم السرقات الشعرية وتفصيلها الماتع عند ابن الأثير في كتابه "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر"، وبعدها بسنوات (ليست بالقليلة) عرفت التناصّ وأشياء من هذا القبيل، ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾.