من حكايات حارتنا... المتعالِم

11 فبراير 2024
+ الخط -

حارتنا واحدة من حارات الدنيا الضيقة، التي لا تنتهي حكاياتها ولن تنتهي.

وهنا أدوّن بعضاً من تلكمُ الحكايات.

(1): حكاية (الشيخ المرابي)

عرفته شيخاً كبيراً قد شاب شعره، وهو يرمل في شوارع الحارة في نشاط يليق بالشباب لا بسنه المتقدمة!

لكن الصورة لم تكن وردية، فالرجل مرابٍ كبير؛ يعطيك ألفاً كي تردها ألفاً وخمسمائة أو أكثر، كله حسب مساومتك معه.

أثرى الرجل فصارت لديه عمارات وعقارات، وزاد في الأمر بخله الذي اشتهر به كشهرته في المراباة.

مرت الأيام وغادرتُ الحارة لسنوات، وعندما عدّتُ، التقيتُ بأبناء الرجل الذين بدت عليهم الفاقة، مما أثار استغرابي، بيد أنه زال عندما علمتُ أن أموال الرجل وضياعه قد تبددت كلها إثر مغامرة خاضها، فقضى حسرة على ذلك.

فقلتُ: صدق الله ﴿ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذهَبُ جُفاءً وَأَمّا ما يَنفَعُ النّاسَ فَيَمكُثُ فِي الأَرضِ كَذلِكَ يَضرِبُ اللَّهُ الأَمثالَ ﴾ [الرعد: ١٧].

***

(2): حكاية (المتعالِم)

أحد سكان حارتنا، رجل يدّعي العلم في ضروب متعددة؛ فهو يتحدث في التاريخ والأدب والفقه، وفي الأونة الأخيرة بدأ يدس أنفه في الفيزياء والفلك. أما السياسة، فأهل الحارة جميعاً متعالمون فيها!

صديقي هذا يرتاد كل مجالس الحارة، حيث يرتفع صوته في جميع مجالسه، وكأنما علو الصوت دليل على قوة حجته..

أنا بطبعي أحترمُ أهل التخصص؛ فأصمتُ عندما يتحدثون، بخلاف صاحبنا المتعالم الذي يقاطع الجميع في ما يقولون.

الذي أعرفه أن زمن الموسوعيين قد ولى مع الانفجار المعرفي الذي نعيشه، فلم يعد هناك عالِم يستطيع الإلمام بكل العلوم، وما يدّعي ذلك إلا المتعالمون، وما أكثرهم في زماننا..

والذي أعرفه أيضاً أن العلم يُورث التواضع؛ لأن العالَم يعرف حقيقة الدنيا من حوله، فيخبت قلبه تواضعاً لعظمة صنع الباري في ما صنع، فما بال صاحبنا يتهادى الكبر معه في كل جدال وهو يحدثك من علو مرتفع، وكأن الخلق طلابٌ في مدرسته؟!

***

(3): حكاية (أبو الدهن)

شابٌ من حارتنا، أذكره، كان لا يكاد الدهن يفارق شَعره! 

تراه مجللاً به طيلة اليوم، كأن الدهنَ للشَعر لازمة من لوازم العيش الرغيد، أو هكذا كان يظن صاحبنا..

كنتُ أراه في شوارع الحارة، إذا جمعتنا الصدفة، يختال بسيارته الفارهة، وهو يفرد شَعره ذات اليمين وذات الشمال، في مباهاة لن تجدها لدى نجمات هوليود!

مرت السنوات سراعاً، كما هو عهدنا بها، وغابت أخباره عني، لكن الدنيا صغيرة، فعلمتُ أن الرجل ترقى في عمله، وصار مديراً لأحد المرافق التعليمية في حارتنا، فظننتُ أن عهد الدهن قد ولى، إذ إنه قد أصبح مسؤولاً عن جيلٍ من الشباب ملتحقٍ بمرفقه التعليمي، إلى جانب أن العمر قد تقدم به، فلم يعد في عمر يسمح بالتصابي، أو هكذا ظننت.. لكني عندما وجدته، كان على عادته، في أناقة طاووس، ومراهقة تنافس طلاب مرفقه التعليمي..

أقول: إن الأناقة والاهتمام بالمظهر الخارجي، بل وحتى الدهن نفسه، من الأمور الحسنة، وتدخل ضمن الحرية الشخصية، ولا أظن أن أحداً يمكن أن يُلام على ذلك..

لكنني ألوم في الرجل عدم تقديره المقام، ولا الموضع الذي ترقّى إليه..

قد رَشّحوكَ لأمرٍ لو فَطِنتَ لهُ ... فاربَأ بنفسِكَ أنْ ترعى معَ الهَمَلِ

أما سأل نفسه ذات يوم: كيف يراه الشباب الذين من حوله، وهم يجدونه منافساً لهم في مراهقتهم، في عمر لم يعد مناسباً لهكذا أمور؟ 

لقد قالت العرب: لكل مقامٍ مقال، ولكل فعلٍ أوان.

فهل وعى صاحبنا ذلك، وهو في موضع القدوة، كما هو المفترض، أم أن المراهقة المتأخرة تتجدد بتقدم العمر؟  

***

وتستمر الحكايات..

عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري