من العبثية السارترية إلى ظاهرة إرشادية فلسفية
كيف عالجت الفلسفة إشكالية العبثية التي لطالما رافقت البشرية لكونها مجموعة صراعات داخلية للنفس البشرية؟
وكيف يمكن للاستشارة الفلسفية باعتبارها آلية علاج تحقيق رؤية جديده للعالم؟ في حياة تدعونا إلى التّساؤل عن هويّتنا، والعالَم الذي نعيش فيه، والآراء التي توجّهنا؟
من هنا تبرز أهمية إدراج الفلسفة في الممارسة اليوميّة، أو الحوار أو التّأمّل أو الانتباه إلى اللّحظة الحالية.
لأنها ليست مجرد نظريات وأفكار تُدرّس في المدارس والجامعات، بل هي في الوقت نفسه أسلوب حياة يجب أن يطبق لتنمية طريقة عيشنا، ولأن هدفها منذ البداية تحسين حياة الإنسانيّة وتحرير الناس من القلق والخوف.
فلسفة سارتر يمكن أن تكون مصدراً للاستبصار في أي شأن بشري، ويمكنها أن تفيد بصفة خاصة في ممارسة الاستشارة الفلسفية، لأن فيها دعوة إلى التفكر في إمكانية أن يصنع المرء نفسه ويختار انفعالاته وأفكاره ومستقبله يجب إدراجها في الممارسة الفلسفية، إذ إنه أخرج الفلسفة الوجودية من محبسها في البرج الفكري إلى رحاب الثقافة السائدة من خلال أعماله ذات العناوين غير المحببة إلى النفس مثل "الغثيان".
جاءت هذه الرواية لتتفاعل مع الحياة العامة وتكون بمثابة علاج فلسفي سلوكي قد يكون نافعاً وفعالاً، ولتلقي على عاتق الإنسان المسؤولية في الانتصار على قراراته.
إشكالية الغثيان وخصوصية حلها وفردانيتها في الوصول إلى نهاية تليق بالسلام الداخلي المحقق لبطل الرواية
أنطوان روكنتان، رمزٌ لمن أدرك الوجود، حقيقة الوجود، بعد دروس وتجارب، ورحلات في الشرق والغرب، ومغامرات عاطفية وغير عاطفية، وإمعان في التاريخ وتأمل في الحاضر وتصور للمستقبل، التي سبّبت إصابته بالغثيان؛ غثيان الإدراك (أو الخوف من الإدراك). استمرت حالات الغثيان تراوده إلى أن استقرت فيه تماماً وباستمرار، غيّرت سلوكه وطريقة تفكيره واتخاذه للقرارات في سلسلة من الأحداث والتعاملات الموثقة في يومياته.
العالم أصبح قرية كونية صغيرة، وباستطاعة أيّ شخص معرفة الآخر وإلقاء الحكم عليه من خلال ما ينشره أو ما يتبناه من رؤى وأقوال
حالةُ الغثيان الوجودي هذه (أو نوبات الهلع الوجودي بعبارة أخرى)، وغثيان إدراك الوجود وقلق الحرية المسؤولة أو المسؤولية الحرة: مسؤولية الحياة والأخلاق في عالم يملؤه العدم والعبثية والشعور بالخواء وصولاً إلى أن يعي حريته وتكون بمثابة مشروع له قيمة، وهذه النهاية الهادئة تليق بالسلام الداخلي الذي حققه وهذا يعد هدفاً من أهداف العون الفلسفي أو التداوي بها.
ويمكننا الاستفادة من فلسفة جان بول سارتر الوجودية والاستعانة بأفكاره في ضوء الاستشارة الفلسفية، من خلال:
أولاً: الإنسان يحدد ماهيته والصورة التي يريد أن يكون عليها، وبإمكانه أن يحدد الغاية من الوجود ويجد معنى لحياته، وهذا يستلزم أن يكون حراً في اختياراته سواء أمام نفسه أو أمام الآخرين. هذا الإنسان محكوم بالحرية ومسؤول عمّا سيكون عليه. فالإنسان ليس شيئاً إلا ما يصنعه هو لنفسه، وهذه فكرة تدعو إليها الاستشارة الفلسفية لتحقيق الغاية من الحياة وفهم معناها ولإيجاد رؤية جديدة للعالم.
ثانياً: جعل الإنسان يفكر بشكل مطلق عن وجوده وهذا أمر مهم جداً في الاستشارة الفلسفية، فمأساة العصر الحالي تختلف عن مأساة العصور السابقة، لأن الناس اليوم تعيش صراعاً داخلياً بثقل المسؤولية التي تصرخ داخل الإنسان الطامح للتخلص من كل شيء.
ثالثاً: نظرة الآخرين هي الجحيم الذي يعيش تحت وطأته الأغلبية من الناس والتي لا يمكنها التخلص منه، وهذا مرض بحد ذاته، إذ إنّ نظرة الآخرين تشكل عبئاً كبيراً على أفراد المجتمع، وكلهم يفكرون في هذه النظرة، خاصة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي حالياً.
فالعالم أصبح قرية كونية صغيرة، وباستطاعة أيّ شخص معرفة الآخر وإلقاء الحكم عليه من خلال ما ينشره أو ما يتبناه من رؤى وأقوال، وهذا أيضاً أمر مهم جداً في الاستشارة من حيث إن بعضهم يعتبر هذه الوسائل سلطة أو تابعة لسلطة معينة ويحتم على الفرد الانصياع لرأي الأغلبية الكبرى أو الأقوى.
إن في فلسفة سارتر ما يستحق أن يذكر في الاستشارة الفلسفية، إن كان من خلال كتبه أو من خلال رواياته، فهو يحاكي واقعاً في القرن العشرين كما لو أنّه في العصر الحالي، لأن المشكلات الوجودية أو الصراعات الداخلية والحروب الحديثة وأنظمة التبعية والسلطوية أوجدت في عصرنا مأساة حقيقية.