ملف "العنف والمرأة"... لا يوجد مبرّر لقتل امرأة (17)

14 مارس 2023
+ الخط -

"آملُ أنك رُزقت

قلبًا مثل الزهرة البرّية؛

قويًا بما يكفي لينهض

بعدَ أن يداس،

وشديدًا ليصمد في وجه

أسوأ عواصف الصيف،

وقادرًا على النمو والتفتّح

حتى في أكثر الأماكن تشققًا".

 (من قصيدة "قلوب مثل الأزهار البرية" لنيكيتا جيل، من كتاب "الرحيل فن سهل التعلّم").

 

أتذكرُ اليومَ الذي تأخرت فيه للمرّة الأولى عن الرجوع إلى المنزل، كنت قد ذهبتُ للمشي في الفضاء المفتوح عند الجبل، وأخذنا الوقت وغابت الشمس، فأبدى والدِي انزعاجه لتأخري. أتوجّس عند ساعات المغيب من كلّ يوم، وألازم المساحة المربّعة للمنزل. وعلى نقيضي، تخرجُ ابنة الجيران للمشي في الفضاء المفتوح الواسع، أحيانًا بمفردها، أو برفقة أخواتها. ينتقدهن الجميع لأنهن أردن أن يروّحن عن أنفسهن بالمشي في مساحات فارغة تحت الجبل! 

وعند المغيب، أجلسُ على درجات المنزل، حيثُ يهبّ نسيم الجبل مُحمّلًا بأصوات النساء في المنازل المجاورة، التي دائمًا ما تُوصَم بالجرم لخروجها من المساحة المربعة المرسومة لها. وعندما يجنّ الليلُ، وتلمع بعض الأضواء هنا وهناك، يمسي الجو ساكنًا والأصواتُ أكثر وضوحًا مثل توبيخ الأم لطفلها لكتابة الواجبات، أو مشاحنات بين الإخوة، حديث مكمّم بالضوضاء، حتى أصوات النساء اللواتي يُعنّفنَ داخل المنازل مسموعة. كما تتناقل الألسن التكهنات والقصص المحرّفة والملغومة عن نساء المنازل المجاورة، "امرأة يضربها زوجها، لكن لا أحد يعلم أصل المسألة"، دائمًا هناك مبرّر أو سبب خفي للتعنيف، وحينما يدخل أحدهم في دائرة التعنيف، فإنه يحاط بالشبهات أيضًا.

تنمو الزهرة البرية بمفردها، مقاومة لتفاوت درجات الحرارة، والرياح والعوامل الطبيعية الأخرى، ولكن لو اقتصر الأمر على الطبيعة بدون تدخل الإنسان، لكان الأمر أفضل، حيث تنمو الزهور البرية بشكل جيد، حتى تداس، تقلع، أو يحرقها الإنسان.

قبل بضعة أشهر، انتشر خبر عن تدهور سيارة شابة عند سفح الجبل، ولم تمضِ ساعات حتى صُحّح الخبر وتأكد مقتلها على يد رجل حانق. شابة في مقتبل تفتحها، لاحقها شاب بمركبته حتى اصطدم بها، ثم استخدم السكين بطريقة مروعة لطعنها وتشويهها. كان الأمر جللًا، أن تحدث جريمة مروّعة في هذه المنطقة الخالية من الأحداث تقريبًا، وانقسم المجتمع القبلي بين عائلة الضحية التي تريد الثأر لدم المقتولة وعائلة القاتل القلقة من الأحداث التالية. كان الناس مثقلين بما جرى، ولكن لم تمضِ ساعات على وفاة الشابة، حتى اشتعلت الساحة بالإشاعات والتكهنات حول سبب مقتل الشابة. بالنسبة إلى المجتمع، لم يكن مقتلها مفاجئًا، وكان لا بد له من التقصّي عن الأسباب التي أدت إلى مقتلها، وارتفعت الأصوات مندّدة بالأسباب: "لقد رفضته ولهذا أقدم على فعلته"، "لم يجمعهما شيء، من المؤكد أنها ابتزته"...

 تنمو الزهور البرية بشكل جيد، حتى تداس، تقلع، أو يحرقها الإنسان

 لم يكن كافيًا أن تقتل بوحشية، إذ وجد المجتمع نفسه يستشفي هوسه المرضي باختلاق الأسباب لمقتل الشابة، حتى طالبت عائلة الشابة بترك الضحية وشأنها، والتوقف عن نشر الإشاعات التي تسيء لها. ربما كان على أحدهم الكتابة باللون الأبيض على وجه الجبل: "مهما تعدّدت الأسباب، لا يوجد مبرّر لقتل إنسان!". 

لم ينتهِ الأمر بعد، إذ كثيراً ما نقرأ "زوجة يشعل زوجها المركبة وتحترق معها"، "فتاة يمسك أخوها برأسها المفصول عن جسدها"... تبدو مثل هذه القصص سريالية للبعض، مثل أصوات الصراخ التي تخيلتها فور مرورنا بمزرعة مشتعلة. كانت ألسنة اللهب قد التهمت نصفها بالفعل، وبدت أشجار النخيل المتفحمة، منحنية إثر الحرارة العالية، وتصاعد الدخان حزينًا في صفحة السماء الصافية.

ويحدثُ، أن تستمر الحياة، وتُنسى هذه الأحداث كأنها رماد منثور في بطن البحر. ونظل نتذكر هذه الحوادث بين فينة وأخرى في مجالسنا، كأي حدث عادي عابر خلال اليوم.

" في دقيقة كُنتِ هنا،

في التالية، كنتِ قد رحلتِ،

والآن أصبحتُ مذعورة 

من مغادرة غرفةٍ

دون أن أودع

كل من فيها أولًا".

(قصيدة: قلوب مثل الأزهار البرية لنيكيتا جيل، من كتاب "الرحيل فن سهل التعلم")

ملاك خليفة
ملاك خليفة
قارئة من سلطنة عُمان، تعبّر عن نفسها بالقول "لستُ أحدًا بالذات. إنما أنا مدفوع بي إلى البحر. تلك علامة شخصيتي".