ملف| رفح.. المعضلة الكبرى والأخيرة (37)

13 فبراير 2024
+ الخط -

بعد غزّة، وخانيونس، تتجه الأنظار اليوم إلى رفح، آخر ما بقي من قطاع غزّة، هناك حيث المحشر والمنشر بالنسبة للفلسطينيين الذين جاوز عددهم المليون والنصف مليون، وعادت الحياة بهم إلى ما قبل المدنية، متجاوزة قيم الإنسانية ومعايير الحضارة ومقوّمات الحياة.

يتسارع الوقت ويضيق أمام الاحتلال الذي يريد أن يبتلع رفح قبل شهر رمضان المبارك، واضعًا في حسبانه خشيةَ تمدّد الحرب خارج حساباته بالتزامن مع خصوصية الشهر الفضيل. يهاتف الرئيس الأميركي جو بايدن رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، مذكرًا إياه بمصطلحات ممجوجة "حياة المدنيين، القانون الدولي، حقوق الإنسان".. يهزّ الأخير رأسه متفاخرًا بمكالمةٍ طولها 45 دقيقة، مؤكدًا استمرار الدعم الأميركي اللامحدود رغم ما يُشاع عن استياء متزايد من نتنياهو وسياساته، لتنتهي المكالمة بجولةِ قصفٍ على رفح تفتك بالمدنيين النيام، وتأخذ منهم حياتهم، وتُحوّل القانون الدولي مجدّدًا إلى لعبة ملّت الأسماع من عبثيتها.

يُذكّر بايدن نتنياهو بخصوصية رمضان، وقد نسي، ربّما بفعل ذاكرته الهرمة، أنّ الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش، إبان غزوه للعراق 2003، رفض مناشدات الدول العربية والخليجية بتخفيف حدّة الحرب خلال الشهر الكريم، ومراعاة ظروف السكان والحساسية الدينية لهم، وأعلن أنه سيواصل حربه، وهو ما يفعله نتنياهو الذي يزداد تطرّفًا مع كلّ إلحاحٍ إنسانيٍ وقانوني لكبح جماحه.

يعيد التاريخ نفسه بضراوة شديدة الوقع على قلوب الفلسطينيين الذين ينتظرون ملاذًا يقيهم جنون الحرب وجحيمها، إذ تمرّ على آذانهم الأخبار التي تؤرجحهم بين الألم والأمل. يتناقلون أنّ مصر هدّدت بوقف العمل باتفاقية السلام الموّقعة مع الاحتلال في حال تنفيذه لعملية عسكرية في رفح، لكن مصر في الوقت ذاته ترفع أسوارها وأسلاكها الشائكة أمتارًا أخرى وتُدجج طرفها من الحدود بأكثر من أربعين آلية عسكرية! ومهما قيل من مبرّرات، فإنّ الفلسطينيين يدركون أنّ هذا الحشد لم يأتِ لنجدتهم، وإنّما خوفًا من أن تدفع الحرب بهم نحو الطرف الآخر من الحدود، فيصبح وجودهم مشكلةً مصرية، وإلّا لماذا لم تخرج هذه التهديدات في بدايات الحرب على القطاع؟

يدرك الفلسطينيون أنّ هذا الحشد على الحدود المصرية لم يأتِ لنجدتهم، وإنّما خوفاً من أن تدفع الحرب بهم نحو الطرف الآخر من الحدود

بل ويعيدنا التاريخ نفسه مجدّدًا إلى وقتٍ أقرب، حين أطلقت مؤسسات دولية وحقوقية ودول عربية وخليجية تحذيراتها من عملية برية في القطاع، ومن ثم قلقها من اقتحام مشفى الشفاء، ومن ثم خوفها على حياة المدنيين ومجاعتهم في الشمال، وأخيرًا التحذيرات من عملية عسكرية في رفح، يرى الجميع فيها البيدق الأخير في الحرب. وذلك في وقتٍ يتناول فيه الاحتلال جميع هذه التصريحات كتحدٍ يثبت فيه استقلاليته عن المشيئة الأميركية، وسيادته على دول الشرق الأوسط، وأحقيته بسفك الدماء وتبرير سيلانها والتلاعب بمفاهيم العدالة والقانون والحقوق، مدعومًا برغبة شعبية جارفة وصلت في آخر استطلاع للرأي إلى اعتقاد 61% من الإسرائيليين بضرورة مواصلة الحرب حتى "القضاء على حماس"، حتى لو عنى ذلك مقتل أسراهم أثناء هذه الحرب.

والحال كذلك، فإنّ رفح أضحت اليوم تشكل معضلةً للأطراف جميعها، فهي بالنسبة للاحتلال ودولته سباقٌ مع الوقت قبل رمضان، ومحاولة لإنجاز المهمة الأخيرة بإكمال العدوان على غزّة شبرًا بشبر، والسعي للقضاء على حماس حتى آخر معاقلها، وتحقيقٌ لمشاريع مؤجلة من قبيل التهجير وتخفيض عدد السكان، وتقسيم القطاع وإزهاق النفس الأخير من حلّ الدولتين.

بمعنى آخر، تمثل رفح بالنسبة لمنظومة الكيان آخر قوسٍ في جعبته للقضاء على حركة حماس، هرمجدون الصغرى إنّ صح القول، ففيها إنهاء القضية الفلسطينية بمضمونها المقاوم، ومن ثم التفرّغ بشكلٍ تام للضفة الغربية ولحزب الله في الشمال، والتطبيع مع الدول العربية والالتفات لغسيل صورة إسرائيل، دوليًا وحقوقيًا.

تمثل رفح بالنسبة لمنظومة الكيان آخر قوسٍ في جعبته للقضاء على حركة حماس

ومهما كان من إلحاح المجتمع الدولي وتحذيراته لدولة الاحتلال، فإنّ التاريخ والحاضر علمنا أنّه، ولا شك، سيصمت ولو بعد حين، كما صمت آنفًا، وسيتناسى ما جرى من مجازر وانتهاكات سابقة، تحت وطأة انتهاكات ومجازر آنية لا تقلّ فظاعةً عمّا مضى.

وكانت الساعات الأخيرة التي حملت نبأ تمكّن الاحتلال من استرجاع اثنين من أسراه في غزّة إثر عملية عسكرية خاصة، قد مثلت انفراجًا بالنسبة لنتنياهو وزمرته الذين يواصلون ترديد نغمة "العمل العسكري هو السبيل لتحرير الأسرى"، متجاهلًا في ذلك أنّ العمل العسكري الذي يُنسب له هذا الفضل قد تكبّد خسائر جسيمة في جميع محاولاته السابقة، وأنّ رصاصه سبق وقتل ثلاثة أسرى بشكلٍ مباشر فيما قتل آخرون نتيجة القصف الجوي.

أمّا حماس، فمعضلتها في رفح هي احتشاد حاضنتها الشعبية وظهرها الجماهيري الذي ينوء بحمل الجوع والعطش والموت ونقصان الدواء وغياب الأفق واستمرار التنكيل والتهجير هناك، وهي تدرك أنّ الطبيعة البشرية إنّما متفاوتة القدرة على الصبر والتحمّل، وهذا ما يُراهن ويعمل الاحتلال عليه، وهو ما تحاول حماس أن تتلافاه بطرحٍ متزن لهدنةٍ مشرفة، دون أن تُلقي بظهرها وظهيرها إلى التهلكة، ولهذا هي تحذر من أنّ أيّ غزو لرفح سينسف المحادثات التي تتوسط فيها الولايات المتحدة ومصر وقطر. وهو تحذيرٌ سيزول مع الوقت، ولا سيما أنّ العودة إلى المحادثات أمرٌ لا بدّ منه، لكنها ترتكن إلى تجربةٍ سابقة في الشمال والوسط أثبتت أنّ توغّل الاحتلال لا يعني سيطرته، وأنّ جيوبها المقاتلة بإمكانها أن تقلب الميدان في أيّ لحظة، وأنّ ما يعدّه الجيش انتصارًا تعدّه هي مستنقعًا لن يتمكن من الخروج منه.

ما يعدّه الجيش الإسرائيلي انتصاراً، تعدّه حركة حماس مستنقعاً لن يتمكن من الخروج منه

رفح أيضًا هي معضلة العرب الأخيرة الآن، يترقبونها لإعادة برمجة مواقعهم تبعًا لنتائجها، وقد أدركوا قبلها أنّ العالم بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول ليس كما قبله، وأنّ العالم بعد رفح لن يكون كما قبله، فعند أطراف رفح تكمن النتائج والخلاصة لكلّ ما كان.

هي معضلة المجتمع الدولي أيضًا، هذا المجتمع الذي فشل قيميًا وإنسانيًا وحقوقيًا في حماية عشرات الآلاف من المدنيين، وارتهن لمصالح استعمارية واقتصادية، ولم يستطع حتى أن يحقّق خدشًا بسيطًا في خزان حصار الاحتلال للفلسطينيين وتجويعهم وإبادتهم.

ما بين خيام رفح ومياه صرفها الصحي، وجدارها المتصاعد، وأوجاع أهلها وخوفهم وجوعهم يقف العالم بأكمله في الزاوية مترقبًا النتيجة، بين آخر ما تبقى في بندقية المقاوم من رمق، وأعتى ما يملكه الاحتلال من وحشية وغطرسة لا تبقي ولا تذر.

مدونات
مدونات

مدونات العربي الجديد

مدونات العربي الجديد
النصّ مشاركة في ملف| غزّة لحظة عالمية كاشفة، شارك معنا: www.alaraby.co.uk/blogsterms
سجود عوايص
سجود عوايص
باحثة أكاديمية وكاتبة في القضايا الإعلامية الفلسطينية والعربية، صدر لها عدد من الأبحاث والكتب في الشأن الإعلامي. تعرّف عن نفسها بالقول: "الحقيقة ليست ما يٌقال..إنها تختفي خلف ذلك الذي "لا يُقال".