ملف العنصرية: أن تكون سورياً في لبنان (2)
"إن تعرضت لشيء من العنصرية في لبنان فهذا طبيعي جداً، لا تأخذ الأمر على محمل الجد، وكأنّ شيئاً لم يكن، لا تقف عند الموضوع، يجب أن تعيش، وكما يقولون الغريب أديب".
هذه كلمات قالها لي صديقي عقب موقف غريب ومضحك حدث معي، وقتها كنت في المنزل وحدي أسكن عنده أُولى أيامي في لبنان، وكان هو في العمل. كنت أنفض الغسيل وأنشره في الطابق الخامس، فأَصبتُ بماءِ الغسيل أحدهم، وكان في الطابق الثالث واقفاً على شرفته، ولم أنتبه لوجوده، فصرخ الشاب الأسمر من تحتي وبدت عيناه كما لو أنّه وحش كاسر، موجهاً لي بلهجة شوارعية كلمات بذيئة كثيرة فهمت منها القليل. تمالكت أعصابي وأنا الهادئ الرزين، وقلت له "اعذرني يا أخي حقاً لم أكن أراك، ولا أقصدك أبداً، مشان الله لا تواخذني" لكّن الشاب بدا أنه يحب المشاكل. لم يسكت واستمرّ في إطلاق الإهانات والكلمات البشعة: "وليه ليكون مش عاجبك، سوري وعم تحكي؟"، واستمرّ بإطلاق مثل هذه العبارات رغم أني دخلت غرفتي والتزمت الصمت، لعّل الصمت والتغاضي ينفع، لكن الحكمة لم تجد مع هذا، وما هي إلا ثوان حتى صار باب المنزل يهتزّ بشدّة، ثمّة شبان يدفعون الباب يريدون اقتحام البيت بقوة، ارتعدت فرائصي واحترت بين أن أفتح أو أن أظلّ صامتاً، لكني اخترت فتح الباب ومواجهة الموقف.
هجم عليّ الشاب وحكم يديه على رقبتي وكان معه اثنان. وقعت عيناي على وشم على يده، مكتوب عليه "رضاك يا أمي"، فقلت في نفسي "أعوذ بالله، هذا خريج حبوس أكيد"، تداركت الموقف وبروية، قلت له: "يا أخي هدّي حالك والله مو قاصد وبعتذر منك سامحني".
بالفعل وقعت كلماتي عليه كماء بارد، وفجأة خمدت نار حقده، قائلاً بتأنيب هادئ: "تاني مرة انتبه منيح". أجبت: "تكرم"، فحملوا الشباب أنفسهم وذهبوا، وكأنّ روحي عادت إلى جسدي.
المسؤول عن هذه الصور النمطية عن السوري في لبنان هو بعض الإعلام اللبناني، الذي يصّور السوري دائماً على أنه الشحّاد الذي يأتي إلى لبنان ليعمل بأيّ شيء حتى يأكل الفتات
عند عودة صديقي من العمل أخبرته بذلك، انزعج وذهب ليخبر مدير البناء كوني ضيفاً عنده، وهذا الموقف كبير في حقه، لكن مسؤول البناء كان فلسطينياً مؤتمناً من مالك العقار اللبناني، فأخبره أنه لاجئ فلسطيني، ولا يقوى على فعل شيء في أرض ليست أرضه، وطلب منه في نهاية الأمر التروّي، قائلاً له: "ازرعها بدقني هالمرة".
أن تكون غريباً في بلد ما، بالفعل يجب أن تكون أديباً، لكن أن تكون سورياً في لبنان يجب أن تتحمل الإساءة، وأن تكون جيداً في تلقّي إهانات البعض، وأن تتعوّد على الصور النمطية الغبية في بعض الأحيان، حتى إنّ أحدهم سألني مرّة "ماذا تعمل؟". قلت له: "أنا صحافي ومخرج أفلام وثائقية"، فكان جوابه: "آه يعني في سوريين مو عتّالين ومعمرجية، والله منيح". شخص آخر، عرفني أني سوري، صار يتحدث إليّ بلهجة مسلسل باب الحارة، وكأنه لا يعرف من سورية إلا باب الحارة!
لا شك أنّ المسؤول عن هذه الصور النمطية هو بعض الإعلام اللبناني بشكل كبير، الذي يصّور السوري دائماً على أنه الشحّاد الذي يأتي إلى لبنان ليعمل بأيّ شيء حتى يأكل الفتات، مصوّرا السوري على أنه الجاهل الأمي (الفولكير)، ومظهراً إياه بصورة الإنسان البدائي، ليصب عليه جام طائفيته وعنصريته وحقده، وهذا طبيعي في بلد تقوم تقسيمته الحكومية على أساس الدين. لكن ماذا يفعل الإعلام السوري لأبنائه؟ كيف يتحمّل هذه الإساءات؟ وكيف يدافع عن أولاده في البلاد الأخرى؟
على القائمين على الأعمال الدرامية والفنية في سورية أن يعيدوا النظر في كيفية إظهار السوري في مسلسلاتهم، وأن يعيدوا تشكيل دراما ترقى لأن تكون سورية كما عهدناها، دراما ثقافية حوارية تثبت أنّ السوري إنسان حضاري يفكّر ويبني ويطّوّر، ولا يجب أن يقبل الإهانة ورأسه ملتو لمجرّد أنّ بلاده عاشت حرباً لا مثيل لها.