مع اقتراب الذكرى الثلاثين لأوسلو.. ماذا تبقى لهم؟

11 سبتمبر 2023
+ الخط -

كان يوم الثالث عشر من سبتمبر لعام 1993 تاريخاً فارقاً في مسيرة ومسار الشعب الفلسطيني ونضاله من أجل التحرر والانعتاق من الاحتلال. هذا التاريخ الموشح بالسواد مثّل أكبر ضربة للقضية الفلسطينية، إذ يصح توصيف ما قامت به قيادة منظمة التحرير في ذلك التاريخ بأنه إطلاق نار في الرأس وانتحار ذاتي، ومثّل كذلك قطعاً مع كل تضحيات الشعب الفلسطيني وقياداته وجماهيره وأنصار قضيته عبر العالم، وأسس لكل الخيبات والانتكاسات على مدار الثلاثين عاماً التي تلت توقيعه.

نعم وبكل وضوح، أوسلو كان خطيئة وليس خطأ، "شيك على بياض" كما يقال لدولة الاحتلال، شرعن احتلالها وأفضى لتحوله لاحتلال مجاني الكلفة، يعمل فيه المُحتَل في خدمة محتله عوضاً عن مقاومته، ويحاول المسروق تبرئة السارق، إنه أكبر عملية احتيال وأسوأ ما أصاب فلسطين بعد النكبة.

ماذا تبقى لهم؟ غيّر أوسلو كل شيء، تحولت حركة التحرر الوطني "فتح" لحزب سلطة متوهمة تحت الاحتلال، وأوجد طبقة من السياسيين الفلسطينيين المرتبطين بالاحتلال والمستفيدين منه، وخسرت فتح، قبل غيرها، قيادات عديدة فتحاوية استقالت أو أقيلت، جراء رفضها مسار أوسلو وتحذيرها مبكراً من مآلاته، لتخلو الساحة لحملة بطاقات VIP في سلطة بلا سلطة ووهم دولة. لا يوجد في التاريخ تجربة تقول إن شعباً تحت الاحتلال أقام دولته قبل التحرر منه.

يقول البروفيسور آفي شلايم في كتابه "أسد الأردن" إن إحدى مقاربات إسرائيل بعد حرب 1967 كانت تقوم على تصور وخطة تأمل أن يوافق عليها العرب، تتلخص حسب إيغال آلون نائب رئيس وزرائها في ذلك الحين في: "أقل عدد من السكان العرب في المناطق التي تطالب بها إسرائيل، وتضمّنت كذلك تصوراً لبناء دائم للمستوطنات والقواعد العسكرية، ودعت الخطة لفتح مفاوضات مع الزعماء المحليين لتحويل الأجزاء المتبقية من الضفة الغربية إلى منطقة حكم ذاتي مرتبطة بإسرائيل".

يقول شلايم إن هذه البنود هي أداة إسرائيلية أحادية لضم قطع واسعة من أراضي الضفة الغربية مع تجاهل الحقوق العربية، أما الدولة الفلسطينية فستكون محاطة من إسرائيل من جميع الجهات، مع استمرار المفاوضات حيث يعتقد أبا إيبان، وزير خارجية إسرائيل في ذلك الوقت، بأنَّ إبقاء الاتصال والتفاوض أمر مهم يخفف من الضغوط، ويعطي إسرائيل الوقت الذي تحتاجه لتنفيذ ما تريده على الأرض، أليس هذا تماماً ما حققه أوسلو؟ هل حقاً استحضر صانع القرار الفلسطيني ذلك عندما وقعه والذي هو مقاربة إسرائيلية بالأصل؟

لو قرأ الأوسلويون التاريخ وتجارب الشعوب وحركاتها التحررية، لعلموا أن الدولة لا تقوم قبل انتصار الثورة

لو قرأ الأوسلويون التاريخ وتجارب الشعوب وحركاتها التحررية، لعلموا أن الدولة لا تقوم قبل انتصار الثورة. وعلى عكس كل التجارب التي سبقتنا، فإن "وهم سلطة" جعل بعض المؤمنين بأوسلو يقبل بلعب دور الوسيط بين الشعب ومحتله، وأسهم أولئك من حيث يعلمون أو لا يعلمون في تقديم غطاء لممارسات إسرائيل وسطوها على ما تبقى من أراض فلسطينية، وتحقيق خطة أبا إيبان وإيغال آلون وإسحق رابين ونتنياهو، عبر الاستيطان وجدران العزل ومراسيم الموت، بتوقيعها أوسلو غطت المنظمة على كل ذلك، ولاحقاً حاصرت السلطة شعبها، عوضاً عن حصار حصاره!

عقب ثلاثين عاماً، يطبّع العرب باسم الشعب الفلسطيني! صحيح أن عديداً من الأنظمة كانت مطبعة لكن من تحت الطاولة، أو متحفزة للتطبيع، لكن سلوك الأوسلويين قدم لتلك الأنظمة المبررات، وعبّد طريقها نحو تل أبيب دون خجل، فتجرأت على القضية الفلسطينية، وهي التي لم يكن بمقدورها فعل ذلك إبان عنفوان الثورة الفلسطينية داخل الأرض المحتلة وخارجها، ليس أصالة منها، وإنما خوفاً من تبعات ذلك، لقد أضر أوسلو والممارسات التي تبعتها حتى اللحظة الراهنة بالرواية الفلسطينية بمجملها، وأضعفتها عربياً ودولياً.

حصاد ثلاثين عاماً، استعار الاستيطان، تهويد القدس، والسطو على ما تبقى من الضفة، ومحاصرة الفلسطينيين في كانتونات تتنفس عبر إسرائيل وتعيش تحت رحمة اقتصادها، وتحويل الاستعمار الإسرائيلي لاستعمار مربح، ومعفى من العواقب والعقاب حتى من الإدانة لسلوكه الاحتلالي، وتحول الإسرائيلي من خصم إلى شريك أمني، ولا أقصد بطبيعة الحال الجميع، فالتعميم خاطئ. فثمة آلاف من الرافضين هذا النهج في السلطة وفي حركة فتح ذاتها، المكرهين على الصمت، لأن الواقع الذي فرضته جعل لقمة عيشهم وآلافاً آخرين مثلهم رهينة لرواتب السلطة، التي تحولت لمعادل للأنظمة العربية وسلوكها وقمعها.

ضاعت البوصلة الفلسطينية عندما انحرفت المقاربة من النضال من أجل التحرر الوطني، إلى التناحر على وهم سلطة، أهلك المتصارعون عليها الحرث والنسل، فلم تحرف البندقية فقط وإنما انحرف النهج، وأدخل أوسلو الشعب الفلسطيني في متاهات نهايتها ما يعيشه اليوم من ضياع للمشروع الوطني، ومواجهة منفردة للاحتلال ودولة فصله العنصرية، وسط عجز فلسطيني رسمي، وحصار للشعب دون حصار إرادته بطبيعة الحال، وتحلل إسرائيل من كل تعهداتها ومن مجمل ما كان يسمى "المسار السياسي" أو "المفاوضات"، فالحياة ليست مفاوضات، وإنما صراع إرادات!

تسبب أوسلوا في تعزيز الانقسام بين القوى والفصائل الوطنية وداخل الفصيل الواحد، وفي عموم المجتمع الفلسطيني في الداخل والخارج، فماذا تبقى منه؟ لا شيء، مخافر أمنية تعتقل وتعذب، وسلطة بلا سلطة، وانقسام وحصار، وقبل ذلك وبعده تيه وضياع للبوصلة، أي مقامرة هذه؟ وأي خطيئة كان أوسلو أو خطايا، وكيف الخلاص من ورطته؟ أسئلة برسم الإجابات الوطنية.

C2A96DF8-EEBE-40B9-B295-1C93BEABA19C
محمد أمين
كاتب وإعلامي فلسطيني مقيم في لندن، أكمل الماجستير في الإعلام في جامعة برونل غرب لندن.عمل صحافياً ومنتجاً تلفزيونياً لعدد من البرامج التلفزيونية والأفلام الوثائقية لصالح عدد من القنوات العربية والأجنبية، يكتب حالياً في شؤون الشرق الأوسط ويختص في الشأن الفلسطيني.