معين فوق شجرة التين
نصيحةً لوجه الله: لا تذهب إلى قطافِ التين مشغولَ البال، بلا قفّازاتٍ من المطاط في اليدين، ومرتدياً (نكاية بزوجتك) قميصاً صيفياً "نص كم"، وتضرب أخماساً في أسداس، وتمسك في يدك صحناً من الخزف الصيني على أساس أنّك ستجمع فيه حبّات التين يا مسكين.
يا سيدي هذا لا ينفع. عليك أن تكون رائق المزاج، وعلى أُهبة الاستعداد عندما تذهب إلى قطاف التين. ها أنت تقف تحت الشجرة الضخمة، تُمعن النظر فيها من كلّ جانب، ثمارها ناضجة ولكنها معلّقةً على أغصانها العالية التي تُعانق السماء، ما هذا المزارع التعبان الذي قصّ أغصانها القريبة وترك الباقي يصعد إلى السماء، وتعال تدبّر أمر قطافها في كلِّ موسمٍ وأنت لا تملك سلّة قصب أو قرطالاً تضع فيها حبّات التين.
ستصعدُ إلى جذعِ شجرة التين الضخمة تلك بصعوبةٍ بالغة، وتتشبّث بأغصانها المرتفعة، أو سترتقي سلّماً خشبياً عالياً لتصلَ إلى ثمر التين، وهنالك في الأعلى وأنت تُمسك بأغصان شجرة التين يأتيك الإلهام لتكتبَ هذا المقال في ذهنك، وتنسى ما يفعله حليب التين الذي يشرشر على يديك. ولا يصلح الآن الذهاب لارتداء قفّازات وقميصٍ بأكمام. لقد فات أوان ذلك يا فهمان، وعليك تحمّل نتائج سهوك وقلّة حيلتك، بعد أن فعل حليب التين ما فعل في جلد ساعديك، وها أنت بدأت تهرشُ وتحكُ من فعل حليب التين. لقد تأخرت في اتخاذ القرار يا مسكين من أجل أن تقطف لأهل بيتك صحناً من التين الطازج، ولم تك سريع البديهة في هذا الأمر، بل انتظرت حتى استفحل المشكل، وأنت مشغول البال في كتابةِ مقالٍ عن مجموعتك القصصية التي صدرت حديثاً في لندن عن "منشورات رامينا"، تحت عنوان: "مدن الكلمات الصادقة - قصص من بلاد سومر". من يكتبُ مقالاً وهو معربش بأغصان شجرة التين؟ تعال يا مسكين قل لنا من أغواك بتأليف مجموعة قصصيّة ونشرها وأنت في الستين، يا صاحب صحن التين؟
من أطرف اكتشافات علماء الآثار رسالة مدوّنة على لوحٍ طينيّ تحكي حالة تلميذ في مدرسةٍ سومريّة في وادي الرافدين
تعال معي يا معين لأرسمَ لك صورةً من تلك الأرض المُباركة، والتي دفعتني دفعاً مذ كنتُ شاباً صغيراً نحو الاهتمام والبحث عن حياة أهل تلك الديار. لقد عشتُ، بكلِّ معنى الكلمة، مع بلاد سومر وأهلها سنوات وسنوات، أتقصّى حياتهم، وما تركوه من رسائل مهمة للبشريّة، فُضّ بعضها، والبقيّة الباقية ما زالت مطمورة في التلال الأثريّة المنتشرة في وادي الرافدين والهلال الخصيب: من أطرف اكتشافات علماء الآثار رسالة مدوّنة على لوحٍ طينيّ تحكي حالة تلميذ في مدرسةٍ سومريّة في وادي الرافدين. تبيَّن هذه الرسالة التي تعود إلى أكثر من أربعة آلاف سنة، وألّفها مدرس مجهول الاسم من أساتذة (بيت الألواح)، بكلماتها وعباراتها الواضحة البسيطة، كيف أنّ الطبيعة الإنسانية باقية لا تزال كما هي، ولم تتبدّل كثيراً. وقد كتبتُ عن هذه الرسالة أوّل مرّة عام 1993 في صحيفة الخليج الإمارتية التي تصدر في الشارقة مع العشرات من المقالات والدراسات عن آثار بلاد الشام ووادي الرافدين خلال وجودي للعمل في (أبو ظبي) بين عامي (1992 - 2000)، وقد بقيت نسخ موادي المنشورة في تلك الصحيفة في مكتبتي في مدينة إدلب في الشمال الغربي من سوريةـ بعد الرحيل عنها مع أسرتي خريف 2016.
ماذا كتبتُ في ذلك المقال؟ ها هي يا معين مقتبسات مما كتبتُ تلك الأيّام، وآمل أن يكون مفيداً وجيّداً: لم تختلف حياة التلميذ السومريّ كثيراً عن التلميذ الذي يعيش في عصرنا اليوم، فهو يخشى إن تأخّر عن موعد بدء الدرس أن يُضرب بالعصا. يستيقظ في الصباح الباكر، يحثّ أمه أن تُهيّئ طعامه على عجل. وفي المدرسة نجد المعلم ومساعده يجلدان التلميذ كلّما أساء الأدب. يبدو بأنّ حال المعلم السومريّ ومعاشه كان ضئيل القدر لا يسدّ الرمق كحال زميله المعلم في أيّامنا هذه، وكان يسعده أن يحصل على بعض العون من آباء التلاميذ.
من أغواك بتأليف مجموعة قصصيّة ونشرها وأنت في الستين، يا صاحب صحن التين؟
تحتوي الرسالة حواراً شيّقاً: إلى أين كنت تذهب منذ أيامك المبكرة؟ كنت أذهب إلى المدرسة. وماذا كنت تفعل؟ يجيب التلميذ إجابة تُشغل أكثر من نصف محتويات الرسالة. يقول: كنت أستظهر لوحي وآكل طعامي وأهيّئ لوحي الجديد، وقبل مغيب الشمس أنصرف من المدرسة، أُطلع أبي على درسي المكتوب، ثم أستظهر له لوحي فيسرّ. وفي اليوم التالي أعود مُتأخراً عن المدرسة لأنّ أمي تأخرت في خبزِ رغيفين على التنور. أدخل الصف وأنا وجلٌ، خافق القلب في حضرة مدرّسي، وأُحييه باحترام.
وسواء قدّم ذلك التلميذ تحيته أم لم يقدّمها، فإنّ يومه كان عصيباً، فقد تلقى الضرب بالعصا من أجل ما ارتكبه من هفوات كالتكلم والقيام في الصف والخروج. ووبخه المعلم قائلاً: إنّ خط يدك في الاستنساخ رديء، وضربه بالعصا من أجل ذلك. طفح كيل الصبي، فأشار على أبيه ناصحاً إياه بأنّ خير ما يفعله أن يدعو المدرس إلى بيته ويسترضيه ببعض الهدايا. وربّما تعتبر هذه أول حالة مدونة عن التملّق أو "مسح الجوخ" في التاريخ.
جاء المدرس، دخل البيت، فأجلسوه في أشرفِ مكان، وقام التلميذ على خدمته، فقدّم الطعام والشراب وكسا الأب المعلم حلّة جديدة ووضع خاتماً في إصبعه. طابت نفس المعلم من هذا الإكرام وحسن الضيافة فأخذ يطمئن التلميذ قائلاً بلغة شعرية: أيها الفتى، لأنك لم تهمل قولي ولم تنبذ إرشادي، عسى أن تبلغ أعلى المراتب في فن الكتابة، وتبلغ الذروة بين طلاب المدرسة، حقاً لقد أحسنت إنجاز أعمال المدرسة وأصبحت طالب علمٍ مجداً.
تنتهي الرسالة بهذه الكلمات المشجعة المليئة بالتفاؤل والأمل. لم يكن الأستاذ الذي كتبها ليحلم بأن قطعته الأدبية التي ألفها في الحياة المدرسية كما شاهدها في زمانه، ستُبعث حيّة بعد أربعة آلاف عام، على يد عالم الآثار، صموئيل نوح كريمر، حيث عرضها في كتابه الجميل (من ألواح سومر). وهذه الرسالة متداولة، فهناك ما لا يقل عن إحدى وعشرين نسخة منها، متفاوتة في حالاتها من حيث الكمال والحفظ، منها ثلاث عشرة نسخة في متحف الجامعة في فيلادلفيا، وسبع نسخ في متحف الشرق القديم في اسطنبول، وواحدة في متحف اللوفر في باريس.