مشروع محمد علي باشا... تحديثي أم حداثي؟
في كتابه "أثر العرب في الحضارة الأوروبية" يقول عباس العقاد: "إن اليابانيين لم يتحركوا لمحاكاة أوروبا في حضارتها وعلومها وصناعاتها، إلا بعدما اصطدموا بها وعجزوا عن مقاومتها". كلماتٌ موجزةٌ في كتابٍ موجز، صدرت من كاتبٍ كبير، حظيت به أمتنا العربية في النصف الأوّل من القرن الماضي، ملخصاً بذلك نهضة أوّل أمّة في آسيا بأقلّ من سطرين. لكن، هل من مُجيب؟
من المضحكات المبكيات أنّ منطقتنا أدركت هذا الأمر قبل اليابان بنصفِ قرنٍ أو أكثر، إذ استشعرت النخبة المصرية ذلك بعد هزائمها المُنكرة في مواجهة نابليون، وسرعان ما تبيّن أنّ محمد علي باشا كان أكثر من فَهِمَ الدرس. يلخص المفكر والخبير الاقتصادي اللبناني الراحل جورج قرم، الفرق بين النجاح الباهر للنهضة اليابانية، وبين إخفاق النهضة العربية، بالعبارات التالية: "إن التفكير الاقتصادي المعمق وتحليل العلاقة بين البنية الاقتصادية والبنية الاجتماعية والسياسية، لم يجذبا رواد النهضة العربية إلا بشكل هامشي للغاية على خلاف ما حصل لدى النخبة اليابانية في القرن التاسع عشر، التي ركزت كل مجهودها الفكري على تحديد عوامل التخلف الاقتصادي".
إنّ أهم ما في الحضارة الحديثة، خاصة في زمن ما بعد تفجّر الثورة الصناعية الأولى في إنكلترا، والثورة الصناعية الثانية في ألمانيا، هو أن تقوم الدول الطامحة إلى لعب دورٍ فعّال في الساحة العالميّة، ببناء قاعدةٍ صناعية متينة، تستغني عن الأجنبي في المدى البعيد، وتسخّرها في استعمار الأمم الأخرى "المتخلفة" وتسلب ثرواتها خدمةً لمجهودها الصناعي، وهذا ما فعلته اليابان، فمع حلول أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، أصبحت اليابان قوّة صناعية جاهزة ومؤهلة لاستعمار جيرانها في الشرق الأقصى.
لم يهتم محمد علي باشا بمحو الأميّة بين المصريين بخلاف ما حدث في اليابان، واعتمد على استيراد الخبرات الغربية في الصناعة والتقنيات دون أيّ شروط أو محدّدات
نعود قليلًا إلى الوراء لنجد أنّ الحملة الفرنسية على مصر في أواخر القرن الثامن عشر، كانت نعمةً أكثر من كونها نقمة، لأنّه ما من حدثٍ إلّا وله وجهه الإيجابي كما السلبي أيضا. ولا شكّ هنا أنّ الحملة الفرنسية ما كانت إلا لهدفٍ استراتيجي فرنسي، كجزءٍ من صراعها الإمبريالي العالمي مع بريطانيا العظمى، ولكن هذه الحملة "اخترقت ستائر التخلف والجهل" في منطقتنا عامة ومصر خاصة، كما عبّر أحدهم.
اختلف الباحثون وما زالوا في طبيعة مشروع محمد علي، أهو تحديثي فقط، أم تحديثي وحداثي في آنٍ واحد، والراجح أنّه كان تحديثيًا وحداثيًا في نفس الوقت، وهذا ما دلّ عليه التاريخ، فقد بدأ الباشا مشروعه "الحداثي" منذ العشريّة الأولى من حكمه، إذ أرسل في عام 1813 أولى البعثات العلمية إلى أوروبا، وتحديدًا إلى إيطاليا، لدراسة العلوم العسكرية الحديثة، وكذلك الطباعة.
بدأ ما يسمّى "العصر الذهبي للبعثات" في "مصر العلوية" عام 1826 عندما أرسلت أولى البعثات الكبيرة إلى فرنسا برئاسة الشيخ الأزهري، رفاعة رافع الطهطاوي، وكانت تضم 44 طالبا، تلاها بعثات كبيرة أخرى أعوام 1828و1829و1832، واختتمت بأكبرها عام 1844، إذ كانت تضم 83 طالبا، بينهم اثنان من أبناء الباشا واثنان من أحفاده.
يرى الكثيرون أنّ الهوية الوطنية المصرية الحديثة بدأت مع محمد علي باشا بعد قرونٍ طويلة جدًا من ضياعها، ويرى آخرون أنّه لم يعير أيّ انتباه للإنسان المصري لدرجة أنّه لم يتقلّد أيّ مصري منصباً قيادياً في الجيش المصري إلّا في عهد محمد سعيد باشا الذي حكم مصر خلال الفترة بين 1854-1863.
استراتيجياً، يرى القوميون العرب أنّ محمد علي باشا سعى إلى إقامةِ كيانٍ محوري كبير من خلال توحيد "القوس المصري الشامي" والقضاء على الباب العالي المتهالك، وإعادة مركز العالم الإسلامي إلى القاهرة "العربية"، لكن القوى الاستعمارية الكبرى بقيادة بريطانيا العظمى رأت في ذلك خطرًا استراتيجيًا ولوجستيًا، إذ كانت تطمع في الحصول على امتيازاتٍ في مجال زراعة القطن وتجارته (العالمية آنذاك)، ناهيك بتحوّل النشاط الزراعي في ذلك الوقت، وشيئًا فشيئًا، من الإقطاعية إلى الرأسمالية، وهذا يهدّد حركة الأسواق العالمية التي تشكّل عصب التنافس الاستعماري في ذلك الوقت.
نعود إلى الصناعة التي هي لبّ أيّ مشروعٍ نهضوي في العالم الحديث، وفيها خلاصة الكلام. لقد فشل الباشا في بناء قاعدة صناعية مصرية متينة، لأنّه بدأ بالتوسّع العسكري قبل جعل مصر قوّة صناعية لها مكانها تحت الشمس، ناهيك بعدم الاهتمام الكبير بمحو الأميّة بين المصريين بخلاف ما حدث في اليابان، واعتمد على استيراد الخبرات الغربية في الصناعة والتقنيات دون أيّ شروط أو محدّدات كما حدث في اليابان، ولم يسع إلى توطين حقيقي للعملية الصناعية بين المصريين أنفسهم.