مريم خلف النافذة
عبد الحق مفيد
كانت الساعة في معصم يدي تشير إلى قرب حلول الساعة العاشرة ليلا عندما كنت في طريق العودة للمنزل. أحسست ببعض البرد يتسلل إلى السيارة، فأحكمت إغلاق زجاج النوافذ استعداداً للتوقف عند إشارة الضوء الأحمر التي تشير إلى إلزامية ذلك لمدة 45 ثانية.
مع بداية فصل الشتاء- ولو أنه لا مطر في السماء ولا في التوقعات- ومع هبوب الرياح الشرقية الباردة والجافة، المحلات التجارية في أكبر شوارع مدينتي أغلقت تماما- على عكس فصل الصيف- فلا زبائن في ممرات الشوارع شبه الفارغة.
بعض مرتادي المقاهي المتأخرين مثلي، يغادرون تباعا، قبل قليل كنت بينهم بعد احتسائي آخر كوب قهوة في هذا اليوم. شرب القهوة يساعدني على النوم عكس ما يدعيه الكثيرون من أنه منبه. معي، يحدث العكس تماما أصبح الأمر بمثابة مخدر يساعدني على الارتخاء. كنت أبتسم في سري وأنا منهمك في تأملاتي والتي لا تعني أحدا سواي، في نفس اللحظة سمعت طرقا خفيفا على النافذة اليمنى. التفتّ لأكتشف أن مصدر الصوت أنامل صغيرة خلف الزجاج حيث تقف فتاة في العاشرة من عمرها، أو هكذا بدا لي. ربما استعرت عمرها من الساعة التي دقت في نفس الوقت فدق قلبي معها.
أنزلت زجاج السيارة لأتبين الأمر، لم يستغرق الحديث بيننا أكثر من زمن التوقف عند الإشارة أو أكثر بثانية أو ثانيتين..
لم يكن بيدي شيء أفعله سوى أن أعيد إليها الأمل في لقاء عزيز طال غيابه، وإقناعها بمغادرة المكان في الحين
اسم الفتاة مريم، وهي طفلة تتسول السائقين عند مفترق الطرقات. تكتري هي وأمها غرفة في أحد منازل المدينة العتيقة بعد أن اختفى الأب وهو يحاول العبور في أحد مراكب الهجرة السرية نحو الضفة الشمالية من البحر الأبيض المتوسط.. أتصور أنه قال لها في العشاء الأخير قبل أن يرحل: "حينما نجتمع هناك من جديد في بيت جديد وأرض جديدة. سأبحث لك عن أفضل المدارس وأسجلك فيها، سوف أشتري لك أحلى الملابس وأجمل اللعب" أتصور أنه قال لها أيضا بعد أن طرد من عمله وبدون أدنى حقوق: "سوف نرحل نحو مجتمعات وبلدان تحترم آدميتنا".
أما هي فكانت تقول لي: "ذهب منذ سنتين ولا أخبار عنه. لا أعرف إن وصل إلى هناك أو اعتقل أو مات، مرضت أمي والتي لم تعد قادرة على العمل خادمة في البيوت فاضطررت لمغادرة المدرسة والخروج إلى التسول"، وأضافت أنها هنا لجمع ثمن دواء والدتها المريضة التي لم تقو على مرافقتها. ولتبرهن على حسن طويتها، أظهرت لي ورقة مكتوباً عليها اسم الدواء مع ختم الطبيب. ولأنني أعرف ثمنه كوني اشتريته أخيرا، اتفقت معها على إعطائها المبلغ كاملا، ولكن شريطة أن تغادر المكان في الحال. ابتسمت بحزن موافقة. أخذت المال، وقبل أن تغادر قلت لها في شبه يقين ومحاولا الابتسام بدوري لها أن "الأب سيعود يوما ما".
لم يكن بيدي شيء أفعله سوى أن أعيد إليها الأمل في لقاء عزيز طال غيابه، وإقناعها بمغادرة المكان في الحين. لقد خفت عليها وأشفقت لحالها.
بعد افتراقنا، تساءلت مع نفسي: هل كان بإمكاني أن أفعل أكثر مما فعلت؟ هل أكتفي بالحوقلة والإدانة والتذمر؟ لمن أشتكي حال الفتاة وحال أطفال كثر مثلها؟ أين الدولة والحكومة والمجتمع...؟ أولم يمر من هنا أحد الساسة أو المنتخبين أو أحد المسؤولين ورأى ما رأيت؟
لقد كان المغرب من بين البلدان الأولى التي بادرت إلى الانخراط في اتفاقية حقوق الطفل، سنة 1989 بمدينة نيويورك. كما وقع سنة 1992 على الإعلان العالمي من أجل الحفاظ على حياة الطفل ورعايته وتنشئته. أين هي الجمعيات والمراصد والمنتديات والمؤتمرات التي عقدت في الفنادق المصنفة، والتي التهم فيها المدعوون ما لذ وطاب من المأكولات والمشروبات باسم مريم الجائعة والحزينة وأخواتها؟
مريم رمز للمأساة المتجذرة في مجتمع ضل الطريق بكل أطيافه على اليمين واليسار والوسط وأخفق بشكل فاضح، وهي عنوان لفشل المخططات كيفما كانت سياسية مجتمعية أو تنموية، ومهما حملت من أرقام وأسماء وترددت شعارات وخطابات. ووجود طفلة في هذا المكان والزمان وفي هذه الوضعية دليل صارخ على ذلك.