مريد البرغوثي... رأى رام الله ورحل
ما زالت الأيام مستمرة في توثيق أخبار رحيل كثير من أصحاب الإبداعات، الذين تركوا بصمات لامعة في شتّى المجالات التي أبدعوا فيها، كما ساهموا في إضافةِ إنجازات لا يمكن محوها من ذاكرة التاريخ. وآخر المبدعين الراحلين، هو الأديب العربي الفلسطيني مريد البرغوثي، الذي رحل في 14 فبراير/شباط 2021، بعدما شارك في نقلِ صورة واقعية عن وطنه فلسطين؛ سواء في شعره أو نثره، فكان رمزًا من رموز الأدب في العالم العربي، وشاعرًا مميّزًا، وصاحب أعمالٍ تعدّ شواهد حقيقية على مسيرة لم تخلُ من الإبداع.
ولد مريد البرغوثي في مدينة رام الله عام 1944، وعاش فيها حتّى أنهى دراسة المرحلة الثانوية، ثم قرر السفر إلى مصر ليكمل دراسته الجامعية، وتصادفت سنة تخرجه مع حرب 1967، التي سيطرت فيها القوات الإسرائيلية على أراضٍ عربية فلسطينية، وصدر قرار يمنع أي فلسطيني كان مسافرًا من العودة، وهكذا أرغم البرغوثي على أن يعيشَ في منفى لم يختره، وبقيت فلسطين هي الجزء الذي لم ينفكّ أو ينفصل عنه، وظلّت رام الله بأماكنها وناسها، وذكرياته فيها ومضة حنين إلى ماضٍ بعيد، وقد خلّد ذاكرته وذاكرة فلسطين بعددٍ من الأعمال والمؤلفات المهمة التي أثرت المكتبة العربية، وتُرجمت إلى عدد من اللغات العالمية.
رحل مريد البرغوثي بعد مسيرةٍ حافلةٍ وثّقت الذاكرة الفلسطينية بجميع أبعادها ومكوّناتها، ورحلة خاضها، ليحقق حُلُمهُ برؤية مدينته التي عاش غريبًا وبعيدًا عنها
بات الشعر ملازمًا لمريد البرغوثي أثناء فترة غيابه عن وطنه، فأصدر مجموعة من الدواوين الشعرية، وكان أوّلها ديوان الطوفان، الذي نشره في بيروت، وخلال رحلته الأدبية تعرّف إلى كثيرٍ من الأدباء، سواء الفلسطينيين أو العرب، وجمعته صداقة قوية مع الرسّام الفلسطيني ناجي العلي، واستمرت حتّى رحيل العلي بعد تعرضه لعملية اغتيال، وجاءت فترة ثمانينيات القرن العشرين، لتشهد على سطوع نجم البرغوثي في عالم الشعر، فنشر في عام 1980 ديوانه قصائد الرصيف، الذي حصل على شهرةٍ واسعةٍ جدًا آنذاك، ووصل عدد مؤلفاته الشعرية إلى 12 ديوانًا، وجُمعت أعماله الكاملة في مجلدٍ من جزأين، وصدر ديوانه الأخير في عام 2018، وكان بعنوان استيقظ كي تحلم.
رأيتُ رام الله، هي التجربة الروائية والنثرية التي أراد فيها مريد البرغوثي لفت أنظار العالم إلى قضية فلسطين، والهجرة القسرية التي فرضت على أبناء الشعب الفلسطيني، فاستخدم قصة حياته ووثّقها في هذا الكتاب، الذي يروي فيه زيارته الأولى، وعودته بعد غربته إلى مدينة رام الله، والتي دامت مدّة ثلاثين سنة؛ حيث عاد في سبتمبر/ أيلول من عام 1996. وحصد كتاب رأيتُ رام الله منذ صدور طبعته الأولى في عام 1997 صدى جماهيريًا كبيرًا، ساهم في حصوله على جائزة نجيب محفوظ للإبداع في مجال الأدب.
لم يكتفِ مريد البرغوثي بكتابهِ رأيتُ رام الله لتوثيق حنينه إلى الوطن، بل أراد أن يجعلَ هذا الحنين ميراثاً ينقله إلى ابنه تميم
تقسم رواية رأيتُ رام الله إلى تسعةِ فصول، تبدأ من الفصل الأوّل، وعنوانه (الجسر)، ويتحدث فيه البرغوثي عن بداية رحلته باتجاه رام الله، ويصف أدق التفاصيل، من حالة الطقس الحار في فصل الصيف، وتساقط عرقه على نظارته، وذكراه الأخيرة على الجسر ذاته منذ ثلاثين سنة مضت، ثم ينتقل إلى سرد الأحداث واضعًا مقارنات بين الماضي والحاضر، وموثّقًا كل شيءٍ بدقة، فاستخدم بعضًا من مفردات وجُمل اللهجة الفلسطينية المحكية، لينقل كل حدثٍ بتجردٍ تام. وأرى أنه لم يتحدث في الرواية عن نفسه فقط، بل كتب قصّة كل فلسطيني عانى من تبعات النزوح، ووصفها دون أي تجميل أو تغيير. وتنتهي الرواية بوصفِ ليلته الأخيرة في رام الله قبل رحيله عنها، وعودته إلى نقطة البداية، الجسر الذي آتى منه بعد غياب، ليرى مدينته الغالية على قلبه.
لم يكتفِ مريد البرغوثي بكتابهِ رأيتُ رام الله لتوثيق حنينه إلى الوطن، بل أراد أن يجعلَ هذا الحنين ميراثاً ينقله إلى ابنه تميم، مثلما أورثه الإبداع في كتابة الشعر، فقرر أخذه برحلةٍ إلى وطنه فلسطين، ووثّق كافة تفاصيلها في كتابٍ أطلق عليه اسم "ولدتُ هناك، ولدتُ هنا"، ونُشِرَ في عام 2009، واعتمد فيه على أسلوب المقارنة الذي استخدمه في كتابه السابق، ولكن المفارقة أن ابنه تميم كان شريكًا أساسيًا وشخصيةً مهمة من شخصيات الأحداث، ويعدّ هذا الكتاب جزءًا ثانيا لرأيتُ رام الله.
ورحل مريد البرغوثي بعد مسيرةٍ حافلةٍ وثّقت الذاكرة الفلسطينية بجميع أبعادها ومكوّناتها، ورحلة خاضها، ليحقق حُلُمهُ برؤية مدينته التي عاش غريبًا وبعيدًا عنها، ويقول واصفًا غربته: "الغُربةُ كالموت، المرءُ يشعرُ أن الموتَ هو الشيء الذي يحدث للآخرين. منذ ذلك الصيف أصبحتُ ذلك الغريب الذي كنتُ أظنّه دائمًا سواي".