مجلس الشعب والصندوق الجوال
استغرقنا خلال سهرات الإمتاع والمؤانسة الأخيرة في سرد قصص وحكايات لها طابع سياسي. أذكر أنني قسمت كلّاً من كتابيَّ المستطرف الأزرق والمستطرف الأخضر الصادرين في 2010 و2011، إلى فصول، أطلقت على أحدها اسم "طرائف ذات طبيعة سياسية"..
هذا النوع من الطرائف كثير جداً في عالم السياسة للبلدان المتخلفة، أو لنقل (الأنظمة السياسية المتخلفة)، والنظام السوري منها بالطبع، السبب الجوهري لحدوث الأمور الطريفة هو أن المسؤول في هذه الأنظمة لا يُعَيَّنُ على ضوء شهاداته، أو إمكاناته وكفاءته، وإنما بناء على قوميته، أو طائفته، أو لأنه قريب المسؤول الكبير فلان، أو لأنه اشترى منصبه بالمال، بمعنى أنه دفع رشاوى لمتنفذين في الدولة ليعينوه في هذا المنصب، أو ربما أنه ملياردير واشتهى أن يكون عضواً في مجلس الشعب فتخلى عن بضعة ملايين وصرفها في حملته الانتخابية حتى نال العضوية، وحينما يتحدث هذا العضو، أو يدلي بتصريح منقول على الهواء، يتبول المشاهدون في سراويلهم من شدة الضحك عليه، كما هو الحال مع تصريحات العضو محمد قبنض الذي رأى أن أفضل وسيلتين للقضاء على (الإرهابيون) هما الطبل والزمر!
كمال: إذا مفكرين نبقى في حديث السياسة أنا عندي شوية حكاية طريفة ممكن أسرد لكم إياها..
أبو محمد: ليش لأ؟ عم نسمع.
كمال: الحكاية تبعي إلها علاقة بعضوية مجلس الشعب اللي ذكرها أبو المراديس في مقدمته. بحب أوضح إنه وصول الأعضاء لمجلس الشعب السوري بيكون بطريقتين، أعضاء بيجوا عن طريق قائمة الجبهة، وأعضاء بطريقة الانتخاب.. في البداية، كان نظام الأسد يحضّر قائمة جبهة مغلقة، يعني كل أعضاء المجلس لازم يكونوا بعثيين وجبهويين، لكن بعد سنة 1990 صاروا يتركوا نسبة من المقاعد لأشخاص يمكن نقول عنهم مستقلين أو أحرار.. وهاي المقاعد سرعان ما صارت مخصصة للتجار والصناعيين وتجار السلاح والمخدرات اللي مستعدين يتخلوا عن بعض ملايينهم في حملاتهم الانتخابية.
أم زاهر: قصدك اللي شايلين الصندوق الجوال بيقنعوا العرب الرحّالين والرعيان والناس اللي ما إلهم عناوين إنهم ينتخبوه؟
أبو زاهر: أحلى شي اللي ببتنزل أسماءهم في قائمة الجبهة، كان عندنا رجل في الحارة أعلى شهادة حصل عليها هي السرتفيكا (الابتدائية)، ومع هيك أخدوه على المجلس وبقي دورتين 8 سنين تحت مسمى "صغار الكسبة".
حنان: مو مشكلة أبو زاهر، في المجلس بيعملوا لهم دورات محو أمية!
كمال: هيك منكون وصلنا للحكاية تبعي. في واحد من صغار الملاكين الزراعيين، في سنة من السنين، توكل على الله وقرر يصير عضو في مجلس الشعب، فباع شي خمس دونمات أرض، وبقرتين، وخمس جدايا، وديك رومي، وعبى جيبه مصاري وصار يلوطش بين فرع الحزب والشعبة الحزبية وفروع الأمن، وكان إله طلب صريح ومحدد، إنه ينزل إسمه بقائمة الجبهة..
أم الجود: قبلما تكمل حكايتك أستاذ كمال. أنا في شغلة ما عم بفهمها. لنفرض إنه شخص دفع مصاري ونزل إسمه بقائمة الجبهة فعلاً، مين بيضمن له إنه الناس ينتخبوه ويصير عضو في المجلس؟
أبو المراديس: تطمني أخت أم الجود. هاي الشغلة ما بتحصل أبداً.
كمال: كان ممكن تحصل هاي الشغلة تصير، والمرشح يسقط لأن عدد الأصوات اللي بيحصل عليها غير كافي. لكن جماعة السلطة لقوا لها حل. أضافوا للصناديق الانتخابية الرسمية صندوق كتير كبير اسمه "الصندوق الجوال"، هادا من الناحية النظرية معناته إنه في لجنة بتركب سيارة من سيارات مجلس المحافظة، وبتعمل جولة في البادية، وبتشوف العرب الرحالين والرعيان والناس اللي ما إلهم مكان إقامة ثابت، وبتطلب منهم ينتخبوا الأشخاص اللي بيحبوا يمثلوهم في مجلس الشعب. لكن عملياً هادا الصندوق صار متل بيضة القبان، هوي اللي بيحفظ لقائمة الجبهة توازنها، وبيخليها تنجح.. يعني، مثلاً، واحد من المرشحين بيكون إسمه نازل في قائمة الجبهة، وأثناء فرز الأصوات بينقصه خمسة آلاف صوت حتى ينجح، هني من باب الاحتياط بيحطوا له في الصندوق الجوال سبعة آلاف صوت، وبينجح..
أم زاهر: قصدك اللي شايلين الصندوق الجوال بيقنعوا العرب الرحّالين والرعيان والناس اللي ما إلهم عناوين إنهم ينتخبوه؟
كمال (ضاحكاً): أي عرب وأي رعيان يا أم زاهر؟ أصلاً هادا الصندوق ما بيطلع برات مركز المحافظة، ولا حدا بيلتقي بحدا. يعني بإمكانك تغيري اسمه من الصندوق الجوال، لـ صندوق التزوير. كمان في عنصر مساعد تاني بيفيد المرشحين ضمن قائمة الجبهة.
أبو جهاد: أشو هوي؟
كمال: الأموات. حكى لي واحد من أصدقائي كان مستلم صندوق انتخابي، قال لي بعدما تنتهي المدة المخصصة للانتخاب، كنا نسكر الباب، ونحسب عدد الأشخاص اللي ما إجوا عالمركز، وفي منهم أموات، وننتخب عن الكل، وكنا نسقط في الصندوق الأوراق الخاصة بقائمة الجبهة حصراً.
أم زاهر: طيب، وأيش صار بالرجل اللي باع البقرات والجدايا؟
كمال: بعدما عمل جولة أولى وتانية ع المسؤولين، وصل لمسؤول كتير مهم، وقادر بالفعل إنه ينزل إسمه بالقائمة فعلاً. اتفقوا على مبلغ محدد (رشوة) ودفع له نصف المبلغ مقدماً، على أن يدفع النصف التاني بعد نزول اسمه في القائمة فعلياً. ويوم اللي بدها تطلع النتائج كان صاحبنا المرشح قلقان كتير، راح دفع رشوة زغيرة للحارس، ودخل على مبنى المحافظة لحتى يعرف النتيجة.. وصار يروح ويجي ويمر قدام الباب اللي منعقد فيه الاجتماع الحاسم، ولما انفتح الباب وقعت عينه على المسؤول اللي متفق معه، فقال له بالإشارة: بشرني.. مشي الحال؟
المسؤول رفع له السبابة والوسطى على شكل حرف (V) يعني علامة النصر. يعني مشي الحال. وهوي التقط الإشارة، ومن فرحه ركض لبرات المكان، ركب سيارته وراح على حارته، وجاب الطبل والزمر اللي بيحارب فيهن محمد قبنض (الإرهابيون)، وبلش العزف، وبلشوا جماعته يدبكوا.. وهادا اللي صار.
أبو محمد: هيك بتكون الحكاية انتهت؟
كمال: الحكاية، في الواقع، انتهت. وملخصها إنه في هالدولة الفاشلة سورية بتدفع مصاري بتاخد اللي بدك ياه، حتى عضوية مجلس الشعب. لكن في ناس حولوا هاي الحكاية لنكتة، وقالوا إنه بعدما هادا المرشح ما احتفل، ودبك، وغنى، وأطلق نار في الهواء فرحاً بنزول اسمه في القائمة، اكتشف إنه في التباس، وإنه اسمه مو نازل في القائمة! فراح دغري لعند المسؤول وعاتبه لأنه رفع له السبابة والوسطى، علامة النصر، دلالة على أنه مشي الحال، فضحك المسؤول وقال له: والله ما لقيتها حلوة قدام الناس أرفع لك الوسطى لحالها!