متى نفتتح متحفاً لحسني مبارك؟!

31 يناير 2021
+ الخط -

لا أحد في بلادنا يفكر خارج الصندوق؛ ولذلك، كل شيء في بلادنا يُنسى بعد حين كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي، وهو ما ترجمه أبونا نجيب محفوظ نثرًا بعد ذلك حين قال قولته الخالدة "لكن آفة حارتنا النسيان".

كنت بعد رحيل حسني مبارك مباشرة قد دعوت الناس إلى ألا ينشغلوا بنزع اسم مبارك من محطة المترو التي تحمل اسمه؛ بل أن يحافظوا عليها كما هي؛ على أن يضعوا تحتها حصرًا لأبرز جرائم عهده وماجرى فيه من فساد وكوارث وإمراض وإفقار للناس، لكي ينعش ذلك ذاكرة الناس فلا يجدوا يومًا ما مَنْ يجعلهم يحنّون إلى أيامه إذا رأوا أيامًا أسود وأسوأ لا قدّر الله، كما حدث عندما وجد عهد الملكية من يصوره للأجيال الجديدة أنه كان أجمل عهود مصر على الإطلاق دون ذكر عيوبه ولا مخازيه.

أزعم أنّ الفرصة لا زالت قائمة، وأننا بحاجة ماسة إلى تنظيم متحف لمبارك، نعم أعني ما أقوله، متحف يضم جرائمه ومخازيه تجد فيه على سبيل المثال لا الحصر كشفًا بأسماء ضحايا العبارة الغارقة التي أفلت مغرقها من العقاب بسبب مبارك وصورًا لهم، وكشفًا بأسماء ضحايا قطار الصعيد المحترق مصحوبًا بصور لهم، وكشفًا بأسماء ضحايا مسرح بني سويف المحترق وصور لهم، وكشفًا بكل ماتيسر من أسماء الذين ماتوا غرقًا وهم يهربون من جحيم الفقر في عهده، وقوائم بأسماء ضحايا التعذيب والقمع من كل التيارات في سجونه ومعتقلاته وأقسام شرطته، وحصرًا بعدد مرضى الأمراض المزمنة الذين ذاقوا الأمرّين في "سلخاناته" المسماة -زورًا وبهتانًا- بالمستشفيات الحكومية؛ وهكذا دواليك.

ستتفهم فكرتي بشكل أفضل لو ضربت لك مثلاً بسيطًا على طريقة مواجهة الدول المتقدمة لماضيها المخزي. تخيّل أنك تسير في شوارع مدينة أميركية ووجدت لافتات ضخمة تدعوك إلى حضور أكبر متحف للعنصرية في العالم، يضم 9 آلاف قطعة كلها مليئة بالعنصرية ضد العرق الأسود بالتحديد، متحف "جيم كرو" نسبة إلى القوانين العنصرية سيئة السمعة والكائن في ولاية ميشيغن الأميركية فعَل ذلك وعرض ماوصف بأنه أضخم تشكيلة عنصرية في العالم تضم بدءًا من لافتات "للبيض فقط" التي كانت توضع على المتاجر والأتوبيسات خلال عهد التفرقة العنصرية الذي كان يمنع السود من ركوب المواصلات العامة ودخول المحلات بل والمشي في بعض الشوارع، ووصولاً إلى رسوم كاريكاتيرية حديثة صوّرت باراك أوباما بوصفه قردًا وإرهابيًّا.

المفاجأة أنّ من قام بجمع هذه التشكيلة عالم اجتماع أميركي من أصل أفريقي اسمه ديفيد بيلجرام، قرر أن يحارب العنصرية بطريقته الخاصة، منذ أن وجد في سوق الروبابيكيا في ألاباما عام 1970 ملّاحة تحوي رسمًا عنصريًّا لامرأة سوداء، فقرر أن يقوم بجمع كل مايجده محتويًّا على إشارات عنصرية قائلاً لنفسه إنّ مثل هذه الأشياء يجب أن توضع في متحف بدلاً من أن تُرمى في صفائح الزبالة؛ لكي تشجع الناس على أن يفكروا بشكل عميق في عدم تسامحهم، وتعينهم على مواجهة ما بداخلهم من تعصّب وعنصرية.

يبقى السؤال: هل يمكن أن نرى في بلادنا متاحف تواجهنا بأسوأ ما فينا لكي نظل نتذكره دائمًا؟ وهل لو قمنا بإنشاء هذه المتاحف لن يدخلها أحد من أبناء بلادنا تمامًا مثل المتاحف التي نضع فيها أعظم ما في تاريخنا، وهل يمكن في حالة كهذه أن نجعل زيارة جميع المتاحف بنوعيها جزءًا من منهجنا التعليمي، نشجع الطلاب فيه على حضور المتاحف التي تضم أمجادنا، والأهم تلك المتاحف التي تضم مخازينا وجرائم حكامنا.

المؤسف أننا اليوم ونحن نحاكم مبارك فنحن لا نحاكمه على أخطر جرائمه التي تهون كثيراً إلى جوارها تهمة قتل المتظاهرين برغم بشاعتها. مع الأسف نحن أكثر بلاد الله حديثًا عن الدين والتدين، ومع ذلك لن تجدنا أبدًا نطبق مبدأ المسؤولية السياسية عن الفساد والاستبداد والإفقار والتجهيل، ذلك المبدأ الذي سنّه في حضارتنا الإسلامية الخليفة الراشد عمر بن الخطاب الذي قال: "لو أنّ بغلة عثرت في العراق لخشيت أن يسألني الله عنها لماذا لم أمهد لها الطريق"؛ ولذلك فنحن نحاكم مبارك ورموز نظامه على جرائم نعلم جيدًا أنهم سيفلتون منها لأننا نحاكمهم بقوانين هم الذين صنعوها وأمّنوا مداخلها ومخارجها لكي يفلتوا من ثغراتها ساعة اللزوم؛ مع أننا لو حاكمناهم على مسؤوليتهم السياسية عن ما جرى في بلادنا لأرسينا قواعد ذهبية للعدالة ستجعل أي مسؤول يفكر في قادم السنين طويلاً قبل أن يفسد في أرض مصر أو يستضعف أهلها.

لا يمكن أن تجد دولة تتقدم أو يستقر حالها ويهنأ أهلها بالأمن والعدالة إلا إذا كانت تتخذ من المسؤولية السياسية أساسًا لمحاسبة مسئوليها عن كل ما يحدث فيها من كوارث وأخطاء ومصائب، هل تتخيل أنّ دولة مثل آيسلندا كانت الدولة الوحيدة في العالم التي حاكمت رئيس وزرائها جير هيلمار هاردي بسبب مسؤوليته عن الأزمة الاقتصادية العالمية التي ضربت العالم كله بما فيه آيسلندا؟! قرأت مؤخراً أنّ محاكمته أخيراً انتهت بحصوله على البراءة بعد أن استمرت لمدة أعوام، لماذا آيسلندا هي التي فعلت ذلك دون غيرها؛ ببساطة لأن هذه الدولة طبقت قاعدة عمر بن الخطاب دون أن تسمع عنه حتى، عندما أنشأت في سنة 1905 محكمة اسمها لاندسدومور مخصصة للتحقيق في الاتهامات الموجهة للقادة السياسيين والوزراء؛ ليس فيما يخص وقائع الفساد أو الوقائع الجنائية فتلك قضايا ينظرها القضاء العادي؛ وإنما فيما ينسب إليهم من اتهامات بالتقصير في أداء عملهم طبقًا لشكاوى مقدمة من نواب البرلمان الذين لا ينشغلون هناك بالتدخل في حريات الناس ولا تكفيرهم في عيشتهم، بقدر ما ينشغلون بجعل كل صاحب مسؤولية يفكر ألف مرة قبل أن يتراخى في أداء عمله.

هل تتخيل أن دولة مثل آيسلندا كانت الدولة الوحيدة في العالم التي حاكمت رئيس وزرائها جاير هاردي بسبب مسئوليته عن الأزمة الاقتصادية العالمية التي ضربت العالم كله بما فيه آيسلندا؟!

ولذلك فقد أحال أهل آيسلندا هاردي إلى المحاكمة التي ظل أمامها طويلاً قبل أن يُثبت براءته ويتضح أنه كان مدانًا فقط في تهمة وحيدة هي عدم مواظبته في حضور كل اجتماعات مجلس الوزراء المخصصة لبحث الأزمة المالية، وهي تهمة لن يتعرض للعقاب بسببها، ولكن سيوجه له فقط اللوم لأنه أثبت اجتهاده في حل الأزمة المالية بوسائل أخرى، ومع ذلك فإن هاردي لم يرضه الحكم واعتبره عبثًا حدث لإرضاء النواب البرلمانيين الذين حرضوا على محاسبته.

بالطبع نحن لا نفضّل أن نكون آيسلندا بقدر ما نفضّل أن نكون كأوغندا؛ لذلك ستجد لدينا من يعتبرون أنّ فلاناً أو علاناً من رموز العهد المبارك "ناس نضيفة ومحترمة"؛ لأنه لم يثبت عليهم أن أخذوا قطعة أرض بالمخالفة للقانون، أو لأنه لا توجد عليهم مستمسكات مالية؛ بينما لو فتشت في سيرة كل واحد منهم لوجدته شريكًا أصيلاً في جرائم مبارك؛ ليس فقط بالصمت أو بالمؤازرة وإنما بالتطوع بتسهيل التخريب الذي قام به مبارك في كل مؤسسات الدولة والذي سنظل نعاني منه حتى يأتي اليوم الذي يكون لدينا فيه محكمة كتلك التي في آيسلندا تحاسب كل مسؤول على إهماله وتقصيره على أداء عمله، ولا تنتظر حتى يختلف مع شركائه في السرقات فيسرّبوا له مستندات تدخله السجن.

هذا الحساب الشرس الذي تُجريه الدول المتقدمة لمسؤوليها لا يعني أنّ كل من يحكم فيها يرتقي إلى مصافّ الملائكة؛ بدليل أنك يمكن أن تجد شخصًا مثل سيلفيو بيرلسكوني يصل إلى مقاعد الحكم في إيطاليا، وبالطبع فإنّ للفساد السياسي في إيطاليا قصة طويلة تحتاج إلى مجلدات لاستعراضها؛ لكن مع ذلك، حتى في إيطاليا لن يكون الفساد مهمة سهلة بالنسبة لمن يحكم؛ حتى لو كان فسادًا يتعلق بحياته الشخصية. ففي نفس المجلة التي قرأت فيها خبر محاسبة رئيس الوزراء الأيسلندي وجدت خبرًا عن تسريبات نشرتها صحيفة إيطالية كبرى مفادها أنّ بيرلسكوني وافق على أن يدفع 5 ملايين يورو مرة واحدة لكي يضمن صمت راقصة التعري المغربية كريمة المحروج الشهيرة باسم روبي سارقة القلوب، والتي كان قد أثير حولها لغط منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2010، عندما نشرت الصحافة الإيطالية أنها قالت لأصدقائها أنها ترتبط بعلاقة مع برلسكوني، وأنه عندما كان يتم تحويل مكالماتها إلى مكتبه كان يقول إنها ابنة صديقه حسني مبارك، لعلك تذكر هذه القصة التي كانت فضيحة عالمية؛ ومع ذلك لم تنشرها أغلب الصحف لدينا.

روبي قالت يومها إنّ برلسكوني كان يدفع لها 47 ألف يورو أسبوعيًّا من ماله الخاص لكي يمارس معها الجنس، ومنذ أن تم نشر ذلك وبرلسكوني يتعرض للتحقيق معه في تلك الاتهامات؛ حتى بعد أن خلعه صندوق الانتخابات بعيدًا عن موقع قيادة إيطاليا، وهو لا يحاسب بسبب ضخامة المبلغ؛ بل يتم محاسبته لأن روبي وقت أن رافقها كانت قاصرًا تبلغ من العمر 17 سنة؛ صحيح أنك لو شاهدت صورتها تشعر إنها "ما تديش على 17 خالص". لكن هذا ليس موضوعنا فالمهم في هذه القصة أنه حتى في ظل مناخ سياسي فاسد كالموجود في إيطاليا، لا يمر الفساد بسهولة في ظل وجود تداول للسلطة وحرية صحافة ومؤسسات متماسكة توجد عليها رقابة شعبية تضمن عدم تعفنها الكامل، وفي ظل ذلك كله يمكن أن يتكبد الفاسد ثمنًا باهظًا من أجل ألا يحاسب على فساده ولو كان شخصيًّا.

قصتي الأخيرة التي أُحدّثك عنها ستكون من إسبانيا التي لا يرى الناس غضاضة في وجود الملكية التي تحكمهم؛ لكنهم في نفس الوقت لا يرون أنّ انتقاد ملكهم  المفدى خوان كارلوس يمكن أن يشكل عيبًا في الذات الملكية، ولا يعتبرون أن كونه ملكًا متوجًا يعني أنه يملك البلاد والعباد؛ حتى أنّ الصحف الأسبانية تمتلئ بتعليقات غاضبة تلومه على خطأ قام به حفيده الذي أطلق النار على نفسه خطأ من بندقية لم يكن ينبغي أن يحملها؛ لأن عمره 13 عامًا فقط، وقام الكثير من المعلقين بالربط بين تلك الحادثة وبين ولع الجد بالسلاح، وهو ما جلب له انتقادات حادة لقيامه بالسفر إلى أفريقيا لاصطياد الفِيَلة؛ حتى أنّ صورة ظهرت له في الصحف وهو يقف أمام جسد فيل قام بصيده هو وصديقته الأميرة الألمانية التي تصفها الصحافة بأنها عشيقة الملك؛ بينما تنكر هي ذلك. بل إنّ كثيراً من المعلّقين لم يتعاطفوا مع الملك الذي تعرض لكسر في الحوض خلال رحلته؛ بقدر ما تعاطفوا مع الفِيَلة التي أطلق عليها النار؛ معتبرين أنّه من العار أن يقوم بذلك فيما يواجه بلده أزمة طاحنة تهدد بانهيار اقتصاده.

في مواجهة هذه الآراء قرأت في مجلة "ذا ويك" البريطانية مقالاً مترجمًا لكاتب إسباني نشره في صحيفة "زامورا" يدافع عن الملك بشراسة في وجه منتقديه، ويصفهم بالنفاق، ويذكّرهم بالأيام التي كانوا ينحنون فيها أمامه ويحلمون بالتقاط صور تجمعهم به، والآن يهربون كالفئران من سفينته الغارقة؛ على حد قول الكاتب الذي اعتبر أن كلمة "آسف" التي نطق بها الملك في تصريح صحافي مقتضب تكفي وزيادة لمسامحته على كل أخطائه؛ لكنها لن تجعل الإسبان يسامحون أبدًا النخبة السياسية والاقتصادية التي تحاول أن تُنسي الناس أخطاءها باصطياد رأس الملك.

وأنا أقرأ ذلك كله، سألت نفسي: هل يمكن أن نرى في أحد الملكيات العربية يومًا ما مقالات صحافية تنتقد ملك البلاد المُفَدّى - طال عمره- وتهاجمه، دون أن يعرّض ذلك كاتبها للكفر لأنه يجترئ على ظل الله في الأرض؟ لكني وجدته سؤالاً شديد التفاهة، وأن السؤال الأعمق والأهم الذي يمكن أن أعثر على إجابة له هو: يا ترى كم عدد الحيوانات النادرة التي صادها ملوك وأمراء الخليج خلال رحلات صيدهم في بلاد الله، وهل يجرؤ أحد في تلك البلاد على إيقافهم أصلاً لكي نطلب من مواطنيهم أن يفكروا في انتقادهم يومًا ما.

يبقى السؤال الأهم الآن: هل ستكون الانتخابات الرئاسية فاتحة عهد جديد لنا لكي نرى في بلادنا هذا النمط من المحاسبة والرقابة بحيث يفرض الشعب على كل من سيحكمونه أن تكون المسؤولية السياسية وليس الجنائية فقط أساسًا لمحاسبتهم؟ هذا هو السؤال الأهم والأجدى من السؤال الذي ننتظر جميعًا إجابته الآن "مين اللي هيكسب الرياسة ويحكمنا؟"؛ لأنه لن يفرق اسم الشخص الذي سيحكم الشعب إذا كان الشعب ضامنًا قدرته على أن يشكمه.

...

فصل من كتابي "في أوروبا والدول المتخلّفة" كتبته ونشرته في مايو/ أيار 2012، وتذكرته الآن بمناسبة النجاح الساحق الذي حققه عبد الفتاح السيسي بفضل فشله في جعل الناس يحنّون إلى أيام مبارك، وينسون جرائمه ولكن إلى حين.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.