ما فعله العيّان بالميت (1/2)

16 فبراير 2021
+ الخط -

(1)

"بسم الله الرحمن الرحيم 
استغاثة مقدمة للسيد الأستاذ مدير نيابة الجمالية 
مقدمه لسيادتكم المواطن محمود عبد الكريم حسنين وابنته منى محمود عبد الكريم حسنين ضد قريبنا ابن شقيقتي المدعو مصطفى علي رضا الساكن بحارة السماعين من شارع الزمر بالعمرانية. والذي بيننا وبينه خصومة في القضية رقم 5690 لسنة 2003 حيث تم الحكم عليه بالحبس ثلاثة أشهر مع النفاذ بتهمة نبش قبور وهتك حرمة موتى. ولكنه هرب سعادتك من الحكم حتى تاريخه. ومنذ ذلك الحين وهو يقوم بتهديدي بالانتقام بالقتل أنا وابنتي، وهو ما جعلنا نعيش أنا وهي في رعب دائم.

لهذا ألجأ لسيادتكم ملتمسا صدور أمر من سيادتكم بضبط المتهم وتنفيذ الحكم مع أخذ تعهد عليه بأنه لو حدث لي أي ضرر يكون هو الفاعل وإذا ما حدث لي أي مكروه يكون هو المسؤول. 
جعلكم الله عونا لنا ولكل الغلابة".

(2)

في بداية الأمر، لم يلفت صراخ منى ولطمها انتباه أحد من زوار المدافن. ليس لأن الصراخ واللطم لم يعودا يلفتان النظر في هذه الأيام، بل لأنها كانت ببساطة تصرخ وتلطم وتصوّط بكل ما أوتيت من قوة وهي داخل تربة أخيها. لذلك لم يعطها أحد اهتماماً خاصاً في البداية، خاصة أننا في نهار الجمعة حيث تشغي المدافن بالسيدات المتشحات بالسواد والرافعات عقيرتهن بالبكاء على الأحباب الذين رحلوا وتركوا لهن وجع القلب والحسرة وخيبة الأمل و"كوم لحم".

في البداية، جاء صراخ منى مثيراً للشجن ومساهماً في إضفاء المزيد من الكآبة على مكان لا تنقصه الكآبة أبداً. السيدات المتواجدات بالقرب من التربة التي انبعث منها صويط منى نظرن إلى صويطها بالكثير من التقدير، لأن صويطها المتصاعد شيئاً فشيئاً يشي بوفاء أصبح نادرا في زمن يأكل فيه الأخ ابنه، بعد أن ولّى ذلك الزمن الذي يأكل فيه الأخ أخاه. وتعالى صوت الصويط إلى حد جنوني حوّل مشاعر التقدير إلى مشاعر خجل تملّكتهن من عدم همتهن في البكاء والصويط، كأنهن لا تمتلكن نفس لوعة الغياب التي تمتلكها هذه السيدة التي عرفوا أن اسمها منى منذ انبعث صوتها هادراً: "يا حوستك يا منى.. يا وكستك يا منى.. يا خيبتك يا منى.. يا لهوييييييييي". 

كأن منى صبّت الزيت على نيران الحزن المشتعلة في صدور الزائرات، فعلت أصوات الولولة والعويل واليالهوييي من أرجاء المدافن بحرقة لا مثيل لها، لكن صوت منى ظل الأعلى في حزنه وحرقته وحدته، وبات واضحاً أن منافستها أمر مستحيل خاصة أنها فجأة وفي حركة من طرف واحد قررت ألا تكتفي بالولولة واللطم، وخرجت من باب التربة التي كان صوتها ينبعث من داخلها لتجري على غير هدى في طرقات المقابر الضيقة مثيرة خلفها الغبار والدهشة.

"إلحقونييي ياناااس.. يالهوييي.. إلحقوني ياخلق.. حسبي الله ونعم الوكيل".

دوّى صوت التربي في المقبرة لينهي ذلك المشهد الدموي ولينهي ذل عبد الحميد بيه المفضوح حياً وميتاً ومدفوناً

لو كان الوقت ليلاً لظنها الناس تجري هرباً من عفريت طلع لها أو ثعبان باغتها، لكن جريها المتخبط منكوشة الشعر زائغة العينين كان مثيراً لمشاعر الدهشة أكثر من إثارته لمشاعر الجدعنة. عندما لم يلحقها أحد تحول الناس والخلق فورا إلى ولاد كلب.

"إلحقوني يا ولاد الكلب"، ولكيلا يتحولوا إلى ولاد وسخة كما بدا جلياً من نظراتها العدائية المنبئة بشتائم قبيحة، لحقها الأقرب إليها ليمسكوا بها ويطلبوا منها أن توحد الله وتصلي على النبي لأن الحزن في القلب.

"حزن في القلب مين يا ولاد الوسخة.. بعد تربة أخويا ما اتقلِّبت".

(3)

لم يكن أهل عبد الحميد عبد الغفار وكيل أول وزارة الإسكان بحاجة إلى فضيحة إضافية كالتي حدثت لهم يوم دفنه رحمه الله مطرح ماراح. كأن موته بالسكتة القلبية في قفص المحكمة التي جرّسته على رؤوس الأشهاد بتهمة نهب المال العام لم يكن كافياً.

وقتها كان أهله المتحلقين حول قبره منشغلين بمحاولة فهم كيف خُدعوا طويلاً في أبيهم الذي كان الجميع يحلفون بشرفه، بينما كان التربي يستعد مع صبيه لإدخال جثمان رب العائلة إلى قبره، فجأة داهمتهم تلك السيدة كأنها قضاء مستعجل جديد، منقضّة بعزم ما فيها على التُّرَبي لتجذبه من داخل التُّربة وسط ذهول الجميع، يداها المتخشبتان وعيناها الجاحظتان والزبد المتطاير من فمها وعروقها النافرة، كل ذلك كان كافياً ليمتنع الجميع عن محاولة فك التربي من بين يديها أو من بين أظافرها بمعنى أصح.

كان المرحوم قد سقط على التراب وتدحرج على سلالم التربة نزولاً إلى داخلها وسط تخشب الجميع فزعاً، لم يبادر أي منهم لاستنقاذ فقيدهم الغالي إلا عندما فوجئوا بصبي التُّربي يطأ جثمان الفقيد بقدميه المتربتين لكي ينقض على السيدة من الخلف محاولا إفلات معلمها من تحت يديه.

"لاإله إلا الله.. في إيه ياست إنتي" كان هذا كل ما قدر الله للتربيّ أن يقوله وهو يحاول عبثا أن يفلت رقبته من قبضتها.

"إنت ياحيوان إنت مش تشوف دايس على إيه" 

هكذا قال آل عبد الغفار لصبي التربي الذي نال في ثوان ضرباً أكثر من الذي ناله معلمه الذي اكتفت السيدة بمحاولة خنقه. لم يفهم أحد منهم لماذا تحاول هذه السيدة منع التربي من إكمال مهمته المقدسة في إكرام الميت. لم يصرح أحدهم بما دار في خياله من تفسيرات لحظية، كأن تكون زوجته في السر وتحاول منع دفنه من باب أنها لم تستوعب الصدمة بعد، أو أن تكون زوجة التربي نفسه وتحاول التعدي عليه أثناء تأدية عمله، أو أن تكون واحدة من مجانين المقابر، ارتبطت بعلاقة غير شرعية مع التربي وتحاول إقناعه بعمل إختبار الدي إن إي.

المجال متسع لتفسيرات عبثية لا أول لها ولا آخر، لكن السيدة نفسها قررت أن ترحمهم من مزيد من البهدلة عندما أرخت قبضتها قليلا من على رقبة التربي وسألته بصوت يهدر بالغضب:

"وديت أخويا فين ياحرامي". 
"أخوكي مين ياست إنتي". 
"هتستعبط يا ابن الكلب.. قوام نسيتني".

ربما أحست السيدة أن جملتها لن تكون كافية لتذكير التربي بها فأشفعتها بقلم على صدغه دوت له أرجاء التربة، لتعود الذاكرة فورا إلى التربي الذي قال لها فجأة كأنها معرفة قديمة. 
"عيب كده يا ست منى".

لم يكن الوقت مناسبا للعتاب من وجهة نظرها على تناسيه لها، فقد اختارت أن تعود لإطباق يديها على رقبته من جديد.

"ومش عيب إنك تبيع أخويا ياواطي.. إيش حال لو ماكنتش باديك فلوس كل زيارة. وديني لأدفنك هنا النهارده".

في لمح البصر أصبح جثمان عبد الحميد بيه المُلقى على سلالم المدفن مسرحاً لصراع مرير بين السيدة والتربي. لم يعد الذهول رد الفعل الملائم الآن. لا بد أن يتدخل أحد لوقف المهزلة. نظر الجميع إلى عبد السلام باشا الذي كان حتى لحظة نظرهم قد نسي كونه لواء بوليس تخوله سلطته الكثير ليفعله.

ذهول الفضيحة الجديدة هيّج عليه أحزان الفضيحة القديمة وذكره بشماتة زملائه وتجريس الصحف ومستقبله الذي صار على المحك، لم يكن الوقت مناسباً لكي يغامر بالمزيد من التهزيئ، لو قررت السيدة الطايحة في المقبرة كثور هائج أن تسبه أو تضربه بالقلم أو تبصق عليه. لذلك زاد ذهول الحاضرين وهم يرونه يقترب من السيدة على مدخل سلالم التربة كأنه جرسون إنجليزي ليربت على كتفيها بمنتهى التهذيب قائلا لها بصوت حرص على أن يبدو حنوناً:

"والنبي ياست منى لو ليكي حاجة عند الراجل ده هنخلصها لك. أنا لواء شرطة وممكن أقف جنبك في أي حاجة. عندنا ميت عايزين ندفنه".

لم تكلف نفسها عناء النظر إلى عبد السلام بيه بجلالة قدره. لكنها أرخت يدها مجدداً من على رقبة التربي كأنها تعلن قبولها التفاوض.

"وديني ما أنا سايباه إلا لما يقول باع أخويا بكام"

لم يشد التربي القدر اللازم من أنفاس الهواء، كأنه حريص على ألا يضيع حقه في الدفاع عن نفسه قبل أن تعود ثانية لخنقه، أخذ يزعق ناظرا لها بعينين مستعطفتين.

"والمصحف يا ست الكل ما بعته ولا جيت جنبه. أبيعه إزاي وهو مدفون من سنتين.. لامؤاخذة يعني زمانه اتحلل.. ده ما يجيبش تمن فتح التربة".

الغبي. هل هذا كلام يقال لسيدة ملتاعة على أخيها؟ يستحق إذن أن تنقض بأنيابها على رقبته لتعضه حتى انبجس الدم من عروق رقبته، مجبرة الجميع بما فيهم عبد السلام بيه على أن يرجعوا خطوتين لا إراديتين إلى الوراء.

دوّى صوت التربي في المقبرة لينهي ذلك المشهد الدموي ولينهي ذل عبد الحميد بيه المفضوح حياً وميتاً ومدفوناً.

"خلاص خلاص والله العظيم هاقول على كل حاجة".

(4)

"مديرية أمن القاهرة 
قسم منشأة ناصر 
نقطة قايتباي 
بتاريخ 25 سبتمبر 2003 بمعرفتي نقيب شاهين عبد الحميد رئيس النقطة أثبت الآتي. حيث حضرت لديوان النقطة المواطنة منى محمود عبد الكريم حسنين وأبلغتنا شفاهة بأنها حال توجهها لزيارة قبر شقيقها المتوفي إلى رحمة الله تعالى رمضان محمود عبد الكريم حسنين بمقابر الخفير بشارع جمال يوسف خلف مقابر الشهداء لاحظت بعض التغيير في سطح المدفن وعندما استفسرت من التربي المسئول عن المدفن المدعو عبد ربه أخبرها أن المدعو مصطفى علي رضا قريب المبلغة حضر إليه وقام بدفع مبلغ مالي له لكي يقوم بعملية تنظيف لقاع المقبرة ونزل التربي بالفعل وقام بذلك وأعطاه التربي بعد التنظيف عدد 11 مسمار بلاتين وشريحة معدنية بلاتينية يقدر ثمنها بتسعة عشر آلاف جنيه، حيث كانت المسامير والشريحة مركبة في القدم اليسرى لشقيقها المتوفي إلى رحمة الله تعالى وأخبرها التربي أن قريبه المذكور أعلاه أفهمه أن طلب تلك المسامير والشريحة جاء بناء على طلب والدها وأنها استفسرت من والدها عن ذلك فقرر لها أنه لم يطلب ذلك وعليه حضرت للإبلاغ وإثبات الحالة واتخاذ اللازم فأمرنا بضبط التربي وقريبها المذكورين أعلاه.

....

هذا وبمناسبة وجود والد المبلغة المدعو محمود عبد الكريم حسنين أمامنا شرعنا في سؤاله فأجاب:

اسمي محمود عبد الكريم حسنين 64 سنة بالمعاش ومقيم سكنا 54 شارع خليفة الجارحي منشية ناصر وأحمل بطاقة رقم 74903 قسم أول شبرا الخيمة.

س: ماهي معلوماتك بشأن الواقعة محل التحقيق؟ 
ج: اللي حصل إني ليا ابن اسمه رمضان وتوفي في حادثة من حوالي سنتين وأنا وأخته كنا بنزوره على طول بس أنا ركبي ماعادتش بتشيلني فبطلت أروح كتير.. لكن أخته كانت بتروح تزوره كل شهر أصلها كانت روحها فيه الله يرحمه، هو اللي كان مربيها، المهم سعادتك لما أخته منى راحت تزوره آخر مرة لقت التربة متغيرة زي مايكونوا دافنين حد جديد، صوّطت ولمّت الناس وسألت التربي اللي قال لها إن ابن عمتها مصطفى الله يجحمه مطرح ماراح قال لها إني طلبت منه يفتح التربة ويطلّع المسامير والشريحة اللي كان رمضان مركبهم في حادثة قبل مايموت، جت تتخانق معايا وتقول لي كده يا ابه يهون عليك رمضان تبهدله وتنبش قبره، الصراحة لله ضربتها قلم عشان عيب تكلمني بالطريقة دي، خدت لي تاكس ورحنا الترب لقينا التربي بيأكد نفس الكلام. فرحت أنا ومنى عملنا محضر في القسم وده اللي حصل سعادتك.

س: هل توجد خلافات بينكم وبين المدعو مصطفى علي رضا؟ 
ج: خلافات إزاي ياباشا.. ده أنا اللي مربيه ولحم اكتافه من خيري.

س: أجب على السؤال.. هل توجد خلافات بينكم وبين المدعى عليه؟ 
ج: لا يا باشا ربنا ما يجيب خلافات.

س: هل سبق أن طلبت من التربي الخاص بالمقبرة أو من ابن شقيقتك القيام بعملية تنظيف للقبر؟ 
ج: أطلب منهم ازاي ياباشا.. ده أنا لو باموت من الجوع ما امدش إيدي على تربة إبني.. وبعدين سعادتك التربي ده كان طلب مني في آخر مرة رحت فيها بعض المبالغ عشان يعمل عملية تنظيف للتربة فأنا قلت له تنظيف إيه هو حمّام؟ وقلت له ما يعملش أي حاجة إلا لما يقولي.

س: وهل طلبت من المدعو مصطفى علي رضا أن يقوم بعملية تنظيف؟ 
ج: لا أنا ما شفتوش بقى لي تمان شهور. أصله واطي وبطل يزورني من ساعة ما بقيتش أخرج من البيت.

س: مِلك من المدفن الموجود فيه نجلك؟ 
ج: مِلك قريبنا المرحوم محمد علي حسنين. وكان مقطوع من شجرة ومن ساعة مامات بقى المدفن بتاع عيلتنا ربنا يدّي سعادتك طولة العمر.

س: مِلك من المسامير التي تم تركيبها بقدم نجلك قبل وفاته؟ 
ج: عدم المؤاخذة السؤال ده غريب ياباشا.

س: أجب على السؤال. 
ج: مش عارف يا باشا. بس ما دام ابني دفع فيها دم قلبه وسحب فلوس كان محوِّشها من شغله في الكويت تسع سنين. تبقى أكيد بتاعته ومش من حق حد ياخدها حتى لو كان أبوه اللي هو أنا سعادتك.

س: ما هو نوع الضرر الواقع عليكم مما حدث؟ 
ج: مش نَهَكوا حرمة إبني يا باشا. هو البلد دي لاعاد فيها أمان لا للحي ولا للميت. مش قصدي حاجة يعني يا باشا. بس إحنا عايزين حاجة ابننا ترجع تاني تربته. ده بيجي لي كل يوم في المنام سعادتك ويقول لي كده يا ابه تسيبهم يسرقوني وأنا ميت. رجع لي حقي يا ابه.

...

نكمل الحكاية غداً بإذن الله

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.