ماهية الحرب في الإسلام

24 مارس 2024
+ الخط -

في الإسلام، لا تعد الحرب مجرد صراع عسكري، بل هي عملية تحمل بُعدًا أخلاقيًّا وروحيًّا عميقًا، يتجسد في الجهاد، وهو مفهوم يشمل الدفاع عن النفس وحماية الدين والأمة. الجهاد، في جوهره، يسعى لإعلاء كلمة الحق والعدل، وليس مجرد بحث عن السيطرة الأرضية أو التوسع الإمبراطوري. 

الإمام الغزالي، أحد أبرز علماء الإسلام وفلاسفته، يناقش في كتابه "إحياء علوم الدين" الأبعاد الروحية للجهاد، مشيرًا إلى أن الجهاد يجب أن ينبع من نية صافية وغاية نبيلة، مؤكدًا الدفاع عن الدين والعدالة باعتبارها مقاصد رئيسية له. يرى الغزالي أن الجهاد ليس مجرد حرب ضد الأعداء الخارجيين، بل هو أيضًا جهاد داخلي ضد النفس والرغبات، ما يعكس البحث عن الطهر الروحي والسمو الأخلاقي. 

بينما يتحدث ابن خلدون، في مقدمته الشهيرة، عن الأساس الاجتماعي والسياسي للحرب في الإسلام، مشيرًا إلى مدى أهمية العصبية والتضامن القبلي في تشكيل الدول الإسلامية وحمايتها. ينظر ابن خلدون إلى الحرب بوصفها أداة للحفاظ على النظام الاجتماعي وتعزيز الهوية الجماعية، مؤكدًا أن الحروب التي تُقام لأسباب مشروعة وتُدار بقيادة عادلة يمكن أن تؤدي إلى خير المجتمع وتقويته. 

الشيخ الشعراوي، المفسر والعالم الديني المعروف في القرن العشرين، يؤكد أيضًا البعد الروحي للجهاد، مشيرًا إلى أن الشهادة في سبيل الله تعد أعلى درجات الإيمان والتضحية. يشدد الشعراوي على أن الشهادة تمنح المؤمن مكانة عالية في الآخرة، ما يعكس الإيمان بأن الحياة الدنيا ليست ليست الغاية والهدف. 

الجانب الآخر يذكره ابن سينا حول الحرب وهو الهجرة القسرية التي قد تنتج عنها. بينما تُعتبر الهجرة ظاهرة مؤلمة ترتبط بفقدان الوطن والأمان، أشار ابن سينا إلى أن في هذه الهجرة قد يكمن خير مستتر، حيث يُنقل بعض الناس إلى أراضٍ جديدة قد توفر لهم فرصًا للعيش والنمو لم تكن لتتاح لهم لولا الحرب. هذا البعد يفتح الباب أمام فهم الحرب وسيلةً لإعادة توزيع السكان والموارد بطرق قد تكون، في نهاية المطاف، مفيدة. 

ابن تيمية، العالم والمفكر الإسلامي البارز، يناقش في كتاباته مفهوم "الهجرة" في الإسلام، ليس فقط على أنه انتقال جسدي من مكان إلى آخر، ولكن على أنه فعل إيماني يحمل بُعدًا روحيًّاً عميقًا. يؤكد ابن تيمية أن الهجرة في سبيل البحث عن بيئة تُعزز من ممارسة الدين وتحقيق الذات هي جزء لا يتجزأ من الجهاد الأكبر. من هذا المنطلق، يمكن اعتبار الهجرة الناتجة عن الحروب فرصة للمسلمين لإعادة تقييم حياتهم وسعيهم نحو أرض توفر لهم فرصًا أفضل للعيش وفقًا لمبادئهم الدينية. 

المقريزي، المؤرخ والمفكر الإسلامي، يذهب إلى أبعد من ذلك في تحليله للحركات السكانية التاريخية التي نتجت عن الفتوحات الإسلامية والحروب. يشير إلى كيف أن هذه الحركات ساهمت في نشر الإسلام والثقافة الإسلامية، وكيف استفاد المسلمون من الأراضي الجديدة في تحسين معيشتهم وتوسيع فرصهم الاقتصادية. بذلك، يُظهر المقريزي كيف أن الهجرة القسرية يمكن أن تحمل في طياتها إمكانيات للتطور والنمو. 

الشاطبي، الفقيه والمفكر الإسلامي، يتناول في كتاباته مفهوم المصلحة وكيفية تحقيقها في الشريعة الإسلامية. يمكن تطبيق فكره على موضوع الهجرة بفهم أن الانتقال إلى أماكن توفر فرصًا أفضل للمسلمين، حتى لو كان نتيجة للحرب، يمكن أن يكون في مصلحة المجتمع الإسلامي عامة. يؤكد الشاطبي أهمية النظر إلى النتائج الإيجابية التي يمكن أن تنشأ من التحديات الصعبة، وكيف أن الشريعة تشجع على اتخاذ القرارات التي تحقق المصلحة العامة. 

يتحدث ابن خلدون، في مقدمته الشهيرة، عن الأساس الاجتماعي والسياسي للحرب في الإسلام، مشيرًا إلى مدى أهمية العصبية والتضامن القبلي في تشكيل الدول الإسلامية وحمايتها

من الممكن أيضًا النظر إلى الحرب بوصفها قوة دافعة إلى التغيير الاجتماعي والتطور. في كثير من الأحيان، تؤدي الحروب إلى تسريع عمليات التطور الاجتماعي والتكنولوجي، من خلال إعادة تشكيل الهياكل السياسية وتعزيز الابتكار. بينما تبقى الحرب ظاهرة مدمرة، قد تولد الضرورة الناتجة عنها ابتكارات وحلولاً لمشكلات كانت تبدو مستعصية قبل نشوب الصراع. 

المفكر الإسلامي والمؤرخ ابن خلدون في مقدمته، يعتبر أحد الشواهد البارزة على فهم الحرب بوصفها عاملاً للتغيير والتطور الاجتماعي. يناقش ابن خلدون كيف أن الصراعات والحروب تؤدي إلى "عصبية"، وهي التضامن القبلي أو الجماعي الذي يعزز الوحدة والهوية الجماعية، وكذلك يمكن أن تؤدي إلى تأسيس ديناميكيات اجتماعية وسياسية جديدة. يشير إلى أن هذه العمليات قد تكون ضرورية لتجديد الحضارات وتحفيز التطور الثقافي والاجتماعي. 

الإمام الشاطبي، الذي يُعرف بتأكيده مقاصد الشريعة، يمكن أن يُنظر إليه على أنه مثال آخر على المفكرين الذين يرون في التحديات، بما في ذلك الحرب، فرصًا للنمو والتطور. يؤكد الشاطبي أن الأهداف العليا للشريعة الإسلامية تشمل حماية النفس والدين والعقل والنسل والمال، وأن الصراعات يمكن أن تؤدي إلى تطوير الأساليب والاستراتيجيات لحماية هذه الأساسيات بطريقة أفضل، مما يعزز التطور الاجتماعي والحضاري. 

الفارابي، الفيلسوف والمفكر الإسلامي، يناقش في كتاباته الدور الذي يمكن أن تلعبه الحكومات والأنظمة السياسية في تحقيق الفضيلة والعدالة داخل المجتمع. ويمكن تطبيق فكره على سياق الحرب بفهم أن الصراعات قد تؤدي إلى إعادة تقييم الهياكل السياسية والاجتماعية وإصلاحها، مما يسهم في تحقيق مجتمع أكثر عدالة وتكاملاً. 

هذه الأفكار تعكس فهمًا معقدًا للحرب والصراع في الفكر الإسلامي، حيث لا يُنظر إليها فقط على أنها مصادر للدمار والخسارة، بل أيضًا على أنها فرص للتجديد والتطور الاجتماعي والثقافي. يشير هذا النهج إلى أن التحديات الكبيرة، بما في ذلك الحروب، يمكن أن تحفز إلى الابتكار وإعادة التفكير في النظم الاجتماعية والسياسية، مما يؤدي إلى تحسينات ملموسة في المجتمع. 

التأمل في الخسارة وإعادة التقييم الروحي، الحرب تجبر الأفراد والمجتمعات على التأمل في معنى الخسارة والقيم الأساسية للوجود الإنساني. من خلال هذا التأمل، قد يحدث تحول في الوعي يؤدي إلى إعادة تقييم للأولويات والقيم. ابن سينا، بتأكيده اصطفاء الله للشهداء وإعادة توزيع الرزق، يشير إلى إمكانية النمو والتطور الروحي الناتج عن الصراعات. 

الغزالي، أحد أعظم علماء الإسلام ومفكريه، يتناول في كتاباته مفهوم الابتلاء وكيف يمكن أن يكون وسيلة للتقرب إلى الله وتقوية الإيمان. يرى الغزالي أن المصاعب والتحديات، بما في ذلك الحروب، تعرض الإنسان لاختبارات روحية تدفعه إلى التفكير في معنى الحياة وأهمية الصبر والثقة بالله. يشدد على أن هذه التجارب تفتح الباب أمام التطور الروحي وإعادة تقييم القيم الشخصية والجماعية. 

ابن القيم الجوزية، تلميذ ابن تيمية ومفكر إسلامي بارز، يؤكد أيضًا فكرة أن الشدائد والابتلاءات تعتبر فرصًا للنمو الروحي والأخلاقي. في كتابه "مدارج السالكين"، يناقش ابن القيم كيف يمكن للتجارب الصعبة أن تكون وسائل لتزكية النفس والارتقاء بها نحو مستويات أعلى من الوعي والفهم الروحي. يشير إلى أن الإنسان، من خلال مواجهة الصعاب، يتعلم الاعتماد على الله، ويعيد تقييم أولوياته بما يتماشى مع القيم الروحية العليا. 

رابعة العدوية، واحدة من أشهر الصوفيات في التاريخ الإسلامي، تمثل مثالًا على كيفية تحويل التجارب المؤلمة، بما في ذلك فقدان الأحباء أو الوطن بسبب الحرب، إلى فرص للتعمق الروحي والتقرب إلى الله. حياتها وشعرها يُظهران كيف أن الخسارة يمكن أن تؤدي إلى تجديد النفس واكتشاف معانٍ أعمق للوجود. 

هذه الأمثلة تسلط الضوء على فكرة مركزية في الإسلام وهي أن الابتلاءات والمحن، بما فيها الحروب، ليست فقط اختبارات للصبر والإيمان، بل هي أيضًا فرص للتطهير الروحي وإعادة تقييم الأولويات الحياتية. تعتبر هذه الأفكار دعوة إلى التأمل في كيفية تحول الصعاب إلى مسارات للنمو والتحول الروحي، مؤكدة القدرة الإنسانية على إيجاد الخير في أصعب الظروف. 

رغم أن الحرب تبقى واحدة من أكثر الظواهر إيلامًا في التجربة الإنسانية، إلا أن فلسفة ابن سينا تدعونا إلى النظر إليها من منظور مختلف، حيث يمكن أن تكون سببًا في تحقيق خير أعظم يتجاوز المعاناة الأولية. هذا لا يعني تجميل الحرب أو التقليل من وطأتها، بل يحث على التأمل في الأبعاد الروحية والاجتماعية التي قد تنشأ في أعقابها. في نهاية المطاف، تظل الحكمة والتأمل في الخير والشر موضوعًا يستحق البحث والتفكير العميق. 

ابن رشد، الفيلسوف والعالم الإسلامي، يعتبر مثالاً على المفكرين الذين حاولوا فهم الحكمة الإلهية وراء الأحداث الإنسانية، بما فيها الحروب. في تفسيره للشريعة الإسلامية وفلسفة الأخلاق، يشير ابن رشد إلى أن الابتلاءات والتحديات يمكن أن تكون وسائل لاختبار الإيمان وتقويته، وكذلك لتعزيز العدالة والمساواة في المجتمع. يرى أن الصراعات تفتح الباب أمام إعادة تقييم القيم والأولويات، مما يؤدي إلى تحسين النظم الاجتماعية والسياسية. 

المواقف الصوفية، ممثلة في شخصيات مثل ابن عربي، تقدم بُعدًا آخر لفهم الصراع والمعاناة. يرى ابن عربي الحروب والصراعات فرصاً للكشف عن الحقائق الروحية وتعميق الاتصال بالذات الإلهية. من خلال التأمل في معاني الخير والشر، يعتقد ابن عربي أن الروح الإنسانية يمكن أن تتجاوز القيود الدنيوية وتصل إلى فهم أعمق للوجود والمقاصد الإلهية. 

رسائل الإخوان الصفا، التي كتبها جماعة من العلماء والفلاسفة المسلمين، تناولت أيضًا موضوع الصراع والمعاناة من منظور فلسفي وروحي. يرون أن العالم مسرح للابتلاءات التي تهدف إلى تحفيز النمو الروحي والعقلي للإنسان. من خلال الاستجابة للتحديات بحكمة وصبر، يمكن للأفراد والمجتمعات تحقيق مستويات أعلى من الوعي والتفاهم. 

هذه الأفكار تؤكد ضرورة النظر إلى الحرب والصراعات من منظور أوسع، مع التركيز على الفرص التي يمكن أن توفرها للتغيير والتحول. بدلاً من النظر إليها  أنها مصادر للدمار فقط، يدعونا هؤلاء المفكرون إلى التأمل في كيفية استخدام التجارب الصعبة وسائلَ لتعزيز النمو الروحي والاجتماعي، وإعادة تقييم القيم بما يخدم الخير الأعظم. 

 

تقوى نضال أبو كميل
تقوى نضال أبو كميل
باحثة سياسية، حاصلة على درجة الماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولة، وتعمل حاليًا كباحثة في مركز الإسلام والشؤون العالمية (CIGA). تتركز اهتماماتها البحثية الرئيسية على نشاط حقوق الإنسان والسياسة في الشرق الأوسط، السياسة الانتخابية. تعرّف عن نفسها، بمقولة غسان كنفاني "أنا من شعب يشتعل حبًا، ويزهو بأوسمة الأقحوان وشقائق النعمان على صدره وحرفه، ولن أدع أحدًا يسلبني حقي في صدقي".