ماذا يُعلّمنا ترامب في إدارة الحملات التسويقية؟
في المناظرة الشهيرة التي جمعت الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، ومنافسته الديمقراطية، كامالا هاريس، قبل أسابيع من جولة الحسم الانتخابي بينهما، سخر ترامب منها حين قاطعت حديثه بقوله: "أنا أتحدث.. هل يبدو لك ذلك مألوفاً؟".
كان ترامب يكرّر ما قالته هاريس في لقاءٍ تلفزيوني قبل أيام من المناظرة، حين لم تعطِ أيّاً من مشاركيها على الشاشة فرصةً للحديث، مكرّرة عباراتها: أنا أتكلم!
بدت ردّة الفعل الجماهيري حيال ما قامت به هاريس غير مشجّعة، حتى بين مؤيديها، كما أظهرته تعليقات منصّات التواصل الاجتماعي، وتسرّب حديث عن غرورها وغطرستها، بل حتى فهمها الخاطئ للكاريزما والحضور، وأنه ربما تعكس مثل تلك الأفعال هزّة في شخصيتها التي تحاول قدر الإمكان أن تُبقيها حاسمة وقوية.
كان على هاريس أن تتعامل مع هذه المشكلة بعقليّة تسويقية، فما كان منها إلا أن خرجت في المشهد الافتتاحي للبرنامج الكوميدي الساخر "ساترداي نايت لايف"، بصحبة شبيهتها مايا رودولف، التي تلعب دورها في الأعمال التلفزيونية بسبب التطابق الشكلي بينهما. وفي المشهد، وقفت هاريس إلى جانب رودولف، بملابس سوداء متطابقة، وبتصفيفة شعر مستنسخة، بنفس حلي اللؤلؤ، كانتا تحدّقان في بعضهما بعضاً، وكأنهما تريان انعكاسهما في المرآة.
سقطت هاريس في مجموعة كبرى من الممارسات التسويقية التي كان ترامب يفعل عكسها تماماً
ربما أرادت هاريس بهذا الظهور أن تعزّز من قوّة شخصيتها، وتسخر في الوقت نفسه من الانتقادات التي لاحقتها، لكن على العكس تماماً، فإنّ ما بقي في ذاكرة الجمهور (كما تداولته منصّات التواصل) هي صورة هاريس وشبيهتها رودولف، وهما تتكلمان إلى بعضهما، وكان التعليق الأكثر حضوراً على المشهد: حسناً.. هاريس بالفعل لا تسمع إلا نفسها!
في الأسبوع نفسه، ظهر ترامب في مناظرة بودكاست مع ابنه بارون، ذو الـ18 عاماً، ابن جيل Z وهو يواجه أباه، الرئيس المحتمل، ويتحدثان سويًا عن مشاكل جيله، بلغةٍ تُظهر كيف يفهم هذا العجوز قضايا هذا الجيل، ويمزح بنكاتهم، ويحدّثهم عن مغامراته العاطفية والجنسية. بارون الابن، يبلغ طوله 204 سم، لذا بدا وهو يجلس في مواجهة والده كأنّه عملاق يجاور مُستمعاً خاضعاً مسكيناً، وهذه رمزية تسويقية حسمت لترامب أصوات فئة تزور لجان التصويت لأوّل مرّة في حياتها.
لغة الأرقام
أنفقت حملة هاريس الانتخابية نحو مليار دولار تقريباً (997.2 مليون دولار)، وهو ما يمثل ثلاثة أضعاف ما أنفقته حملة ترامب، الذي أنفق نحو 345 مليون دولار. هذه الميزانيات ضخمة بلا شك، ولكن من دون إدارة تسويقية حكيمة، لا يمكن للميزانية وحدها حسم المعركة، وقد بدا ذلك واضحًا من الطريقة التي أدار بها كلّ منهما حملته.
لنبدأ بكامالا هاريس، المرشّحة الخاسرة، التي يواجهها خصم عنيد، لكن مليء بالثغرات التي يمكن الولوج إليه منها، إلا أنّ هاريس سقطت في مجموعة كبرى من الممارسات التسويقية التي كان ترامب يفعل عكسها تماماً. كانت هاريس تجهز لكلّ ولاية خطاباً مستقلاً، يتماشى مع مشاكلها وتحدياتها وطبيعة جمهورها، ممّا أوقعها في تناقضاتٍ عدّة، إذ غاب عن حملة هاريس أنّ منصّات وسائل التواصل الاجتماعي بالمرصاد، وأنّ الحديث إلى جمهور ولاية، لم يعد مقصوراً عليها، ونحن في عصر الإعلام التشاركي... لكن ترامب، وعلى العكس تماماً، احتفظ بخطابٍ واحد بسيط مفهوم للجميع، حتى لو كان صدامياً، بطريقة أو بأخرى، لبعض الولايات والجمهور، فأنت تعرف ماذا سيقول ترامب، قبل أن يقوله، لكنك تذهب فقط لتشاهد كيف ستخرج الكلمات منه، ببساطة: أنت ذاهب لتشاهد عرضًا مسرحيًا، وتسمع سخريته من الأقليات والمهاجرين، و"قذف الجبهات" لمنافسيه ومنتقديه، والنكات الساخنة التي يلقيها في كلّ خطاب أمام الجمهور. أمّا المحتوى العام لخطاباته كلّها، فلم يخرج يومًا عن هذا الشعار البسيط: Make america great agian.
وبالمناسبة: هل تعرف ما هو شعار حملة هاريس؟ على الأرجح لا!
من دون إدارة تسويقية حكيمة، لا يمكن للميزانية وحدها حسم المعركة
بالعودة إلى ترامب، هل ثمّة شك في ولائه المطلق لإسرائيل؟ ينافس ترامب بقوّة على لقب الرئيس الأكثر خدمة لإسرائيل في التاريخ، لكن وخلال حملته الانتخابية كلها، هل كان فجًا في تصريحاته حيال الإبادة في قطاع غزّة؟ أيّد إسرائيل، بالطبع نعم، لكنه استخدم عبارات فضفاضة مثل: "سينتهي كل هذا فور فوزي بالانتخابات، يجب أن تنتهي هذه الحرب في أسرع وقت"... حافظ ترامب على علاقة متذبذبة مع مسلمي وعرب أميركا، فيما خسرتها كاميلا أمام سيل تصريحاتها المتكرّرة عن دعمها المطلق لإسرائيل، ورفض أيّ إدانة لها في كلّ المرات التي حاصرها المحاورون لنيل إدانة بسيطة منها، أو وعد بتغيير سياسة بايدن حيال دعم حكومة نتنياهو، فيما لم يورّط ترامب نفسه في سلوك إدارة بايدن حيال إسرائيل، حتى لو كان في داخله يسعى لدعم أكبر، وهو ما أبقى الباب أمام الجميع، عربًا ويهودًا، للرهان عليه في حلحلة الوضع المتأزم.
الرهان على الحصان الرابح
هل نفهم إذن أنّ ترامب كان يرفض الانحيازات الصريحة؟ على العكس تماماً، لكنه ببساطة كان يعرف على مّن يراهن، يضمن ترامب أصوات الولايات اليمينية، ومجموعة كبرى من السكان البيض، وسكان القرى المحافظون... فمن تبقى؟ النسويات؟ المهاجرون؟ المثقفون؟ تجاهل ترامب كلّ هذه الفئات، وقفز سريعاً بحملاته التسويقية نحو الشباب الذكور من فئة جيل z الذي يصوّت لأوّل مرّة (من عمر 18 إلى 27 عاما)، لماذا؟ لأنّهم الفئة الأكثر شعورًا بالتهميش في أميركا، يمثل الرجال ثلثي المشرّدين في الولايات المتحدة، ويقدمون على أكثر من 80% من عمليات الانتحار المسجّلة سنوياً في البلاد.
كان خطاب هاريس (الذي وُصف كثيراً على المنصّات بأنّه مصطنع ورزين حدّ الملل) يركز على قضايا نخبوية وفئوية، تُكرّر كثيرًا في حديثها مصطلحات مثل الآسيويين والنساء والسود واللاتينيين المهاجرين وذوي الاحتياجات الخاصة... بينما حسم ترامب (ذو الأداء الحماسي الجماهيري) أمره منذ البداية، وبنى خطاباً شعبوياً يخاصم كلّ هؤلاء.. فعلى مّن كان يراهن ترامب؟ على كلّ الأميركيين عدا هؤلاء؟ وللمفاجأة: فإنّ هؤلاء المجهولين هم الأغلبية!
أنت تعرف ماذا سيقول ترامب قبل أن يقوله، وتذهب إليه فقط لتشاهد كيف ستخرج الكلمات من فمه
على عكس هاريس، كرّر ترامب مصطلحات مثل وظيفة وقرض وسيارة وأسعار مستقرة أكثر من أيّ مصطلحات أخرى، هذه لغة بسيطة يفهمها الذكور في جيل Z، الذين كان يخاطبهم ترامب في أماكنهم، وعبر منصّاتهم، التي يستخدمها ابنه بارون، حتى إنّ لقاء ترامب مع Joe Rogan حقق أكثر من 47 مليون مشاهدة في منصّة يوتيوب فقط، وكانت تناقش في أغلبها قضايا جيل Z، وتحدّثا عن كلّ شيء، حتى "تريندات" تيك توك الموسيقية!
هذا التوجّه الترامبي نحو الخطاب الشعبوي انعكس على اختياره وجوه حملته الإعلامية القريبة من الناس أو المثيرة للجدل إعلاميًا، إيلون ماسك وهولك هوجان وجو روغان وغيرهم... فمشهد المُصارع الأسطوري الشهير هوجان وهو يمزّق قميصه على خشبة المؤتمر الانتخابي بات مألوفًا لكلّ من تابع هذه الانتخابات، بينما شحنت هاريس مؤتمراتها بنجوم الصفوة ممّن يرتدون الفساتين الفاخرة و...
هل تتذكر ما قلناه قبل قليل: عند ترامب، أنت ذاهب لمشاهدة عرض مسرحي تقتطع منه مشاهد لنشرها على تيك توك، وليس خطاب مرشّح انتخابي ممل رزين يسود مؤتمره المثالية المزعجة التي لا تشبه الناس العاديين في شيء!
الدرس الأكبر
أدرك ترامب وحملته الانتخابية أنّ المرشّح في النهاية ليس سوى سلعة، وأنّ المستهلكين هذه المرّة هم الناخبون، لذا اعتمد على المبادئ نفسها في التسويق للمنتجات لا الأفكار. وبينما أغرقت هاريس خطاباتها بالحديث عن نضالها كأوّل امرأة سوداء (وامرأة عموما) قد تصبح رئيسًا للولايات المتحدة، وأوّل شخص من جنوب آسيا... ذهب ترامب لملفات حسّاسة ومباشرة ضدّ المهاجرين غير الشرعيين والضرائب على الشركات العملاقة ووقف التضخم وتنمية الاقتصاد وفتح السوق وزيادة فرص العمل، بخطابٍ شعبوي يستخدم المصطلحات نفسها التي يتداولها الناس العاديون في الشوارع والمقاهي.
في الأخير، يبدو صادمًا معرفة أنّ حملة هاريس التي جمعت نحو مليار دولار في الدعاية الانتخابية، غارقة في الديون، بما يزيد عن 20 مليون دولار، بينما حملة ترامب لم تنفق سوى 345 مليون دولار من أصل 381 مليون دولار تمّ جمعها، بمعنى أنّه عمليًا قد حقّق "فائض توفير" من ميزانية حملته، كما نسميها في عالم التسويق، وهو بلا شك، نموذج تسويقي خليق بالنظر والتأمّل من كلّ العاملين في عالم الإعلام الرقمي.