ماذا يُعلمنا ديوجين؟
سعيد ناشيد
خلال فترة تدريسي للفلسفة في التعليم الثانوي، لاحظتُ ذات مرّة أنّ تلميذاً يرتدي قميصًا رياضيًّا عليه عبارة "قْصِيوّْر وأفتخر" (قْصِيوّْر: تصغير لقصير في الدارجة المغربية). سألته عن المغزى (وكان قصير القامة بالفعل)، فباح لي بالقول التالي: "منذ نعومة أظافري وأنا أسمع الناس ينعتونني بـ"القْصِيوّْر"، فأستشيط غضبًا، وقد أدخل في عراكات مجانية، إلى أن اهتديتُ إلى أنّ الأسلوب الأمثل لمواجهة الشتائم، أن أُظهر أنها لا تسبّب لي أيّ أذى. لأجل ذلك اخترتُ أن أكتب العبارة على ظهري، "قْصِيوّْر وأفتخر"".
ضحك جلّ التلاميذ، فقلت لهم: أتدرون ما الذي فعله زميلكم هذا؟ لقد طبّق وصية فيلسوف يوناني شهير عاش قبل نحو أربعة وعشرين قرنًا، اسمه ديوجين. هل تعرفونه؟
سألني أحدهم: هل هو ذلك الرّجل الذي كان يعيش داخل برميل؟ ثم علّق آخر، لعله كان بدوره "قْصِيوّْر" لكي يستطيع العيش في برميل! فضحك معظم التلاميذ مرّة أخرى. ثم قلت معقباً:
- بصرف النظر عن قامته، فالواقع أنه لم يعش داخل أيّ برميل، بل أمضى معظم أيامه متنقلًا بين مختلف مدن ومناطق اليونان القديمة. على أنّ البرميل الذي ربما استعمله للمبيت في فترة من حياته كان برميلًا خشبيًا ضخمًا، وموضوعًا بشكل مائل داخل أحد المعابد اليونانية، بحيث يبدو مناسبًا للاسترخاء.
خارج حكاية البرميل، فقد عاش ديوجين بأسلوب هامشي بالفعل، لكنه طبيعي كذلك، إذ يشبه أسلوب تيار الهيبيز في سنوات الستين من القرن العشرين، والمعروف بشعار "مارسوا الحب لا الحرب". وتلك حكاية أخرى.
كان ديوجين يعيش على سجيته متسكعًا بين أحضان الطبيعة، لا يكترث بنظرات الناس وأحكامهم، ولذلك السبب أشاع عنه البعض لقب الكلبي، نسبة إلى الكلاب، لكنه بدل أن يغضب فقد قرّر أن ينفذ الأسلوب الذي لجأ إليه زميلكم، والذي يمكننا أن نصطلح عليه بالامتصاص الوجداني للوصم، فقد قال للواصمين ما معناه: "أنا كلب وأفتخر". بل أكثر من ذلك، فقد أسّس مدرسة شهيرة في تاريخ الفلسفة تسمّى بالنزعة الكلبية، وهي اليوم تُعدّ مرجعًا كبيرًا للحكمة الإنسانية.
كلّ ما يمكن أن يُنتزع منك هو ليس منك، لأنه ليس أنت. فأنت لست أموالك، أنت لست منزلك، أنت لست سيارتك، أنت لست منصبك، وهكذا
لكي نفهم حكمة ديوجين علينا أن نوضح أنّ غايته لم تكن التبشير بحياة التشرّد. ذلك أنه لم يختر حياة التشرّد من تلقاء نفسه، بل أُرغم عليها بعد أن سُجن والده بتهمة تزوير العملة، ليجد نفسه فجأة بلا أب، بلا مال، بلا معيل، بل خسر حتى الجنسية اليونانية، وبالتالي وجد نفسه مرغماً على حياة التشرّد، لكنه بدل الأسى والتذمر فقد حوّل ذلك القدر السيئ إلى فرصة جيدة للعيش بكثافة.
أيًّا يكن انطباعنا حول تجربة ديوجين في الحياة، فالمؤكد أنّ داخل كلّ واحد منا هناك شيء من ديوجين. فما إن يضطرّ الواحد منا إلى العيش وحيدًا في الخلاء، بعيدًا عن الآخرين، حتى يشرع في التصرّف وفق طبيعته التي يخجل من إظهارها للآخرين، مع أنها طبيعته البشرية في النهاية. لذلك لم يكن المنفيون إلى الجزر البعيدة يخسرون من شيء آخر غير سلطة الآخرين عليهم، فكان بوسعهم اكتشاف معنى الحياة الأصيلة.
هكذا يمكننا اختزال فلسفة ديوجين في ثلاث وصايا أساسية:
أولًا، لا تتعلق كثيرًا بالأشياء التي يمكن أن تنتزع منك في أيّ لحظة. فعندما تنتزع منك أشياؤك كلّها أو بعضها، ستكتشف ما سبق أن اكتشفه ديوجين حين انتُزعت منه أشياؤه كلها: كلّ ما يمكن أن يُنتزع منك هو ليس منك، لأنه ليس أنت. فأنت لست أموالك، أنت لست منزلك، أنت لست سيارتك، أنت لست منصبك، وهكذا.
ثانيًا، لا تكترث بنظرات الناس، لا تعش وفق انتظاراتهم، ولا تتقيّد بتوّقعاتهم، طالما أنّ مشاعرك وآراءك وأذواقك لا تعنيهم.
ثالثًا، إذا شتمك أحدهم بما يظنّه عيبًا فيك، فلا تفقد سيطرتك على نفسك، بل قل له مثلًا: شكرًا على هذا الإطراء اللطيف. بذلك النحو ستؤكد له أنك سيّد انفعالاتك.
تلك وصايا ديوجين إلى كلّ من وجد نفسه موصومًا، إما بسبب مظهره، أو مهنته، أو أسلوب حياته.