ماذا ينتظر لبنان بعد؟
إنَّ الأوضاع الحياتية والمعيشية والمالية والاقتصادية والسياسية التي يعيشها لبنان تستدعي القيام بعمل إنقاذي وطني جامع، يضع الوطن المريض والدولة المنهارة على طريق التعافي والخروج من الأزمة التي يشهدها الوطن والدولة بالزوال، فيتلاقى المسؤولون والقادة ليفتحوا في الغد بيتاً للإنسان لا حانوتاً للعصبيات.
وقضية في مثل هذا المستوى لا يمكن أن تقوم ولا تدوم إلّا بين أشخاص مسؤولين أحرار يملكون حرية الارتباط وإرادة الالتزام.
إنّ مشروع الحياة والبقاء هو أساس الوطن وهدف الزمن. وهو يتخطّى المفهوم العمودي التجاري الذي يجعل من الأقليات زبائن بعضهم لبعض، بل رباط بين حريات شخصية وحريات عامة وهي لا تقاس ولا توزن، فتتجزأ أو تتوزّع، بل هي مطلقات بذاتها.
لذا قيل ويقال: إنّنا البلد الوحيد في العالم الذي حوّل وجوده قضية، لأجلها كان وسيكون، أو لن يكون.. وبدونها لا حاجة لوجوده، ومعها وجوده ضرورة عالمية.
إنَّ لبنان هو في الأساس والجوهر لقاء حضارة وتفاعل حضارات، ولأنه كان فهو رابطة بين التراثات ومشروع معاهدة بينها ومهر لها، وإعلان أنّها غنى مشترك لا يصحّ التقسيم والتجزئة والتوزيع..
هذا الوجه الحضاري يطرح لبنان كقضية نموذجية في العالم للتواصل الإنساني الذي فشلَ قديماً في كلّ مكان، وهو اليوم مخذول هنا وهناك. وفي جوارنا، حيث الإنسان منبوذ باسم العرق والدين واللغة، وحيث يدّعون بعد ذلك علينا لأنهم يعرفون تماماً أنَّ وجودنا هو النقيض الأكبر لما يمارسون، وهم يرفضون الاقتداء بنا كوطن للألفة، فلقد أظهروا أنهم أعداء وجودنا من الأساس.
من هنا، فإنَّ لبنان أصبح خلاصة هذا الشرق وصورة مصغّرة لأمسه الكبير، فهو الوريث البكر للثروة المشرقية المكدّسة منذ أوائل الإنسانية على شاطئ هو فرس المدنيات.
وإنما وجود لبنان في قلب العالم العربي الذي ضمن لنا استمرار هذه القضية الفريدة فيه. ولبنان هو من مؤسسي جامعة الدول العربية سنة 1945.
إنَّ ميثاق الطائف الذي صار دستور لبنان ومشروعا لقيام نظام جمهوري برلماني ديمقراطي. إنه مشروع قيام الوطن والمواطنة على أساس المساواة في الحقوق والواجبات بين اللبنانيين، وقيام دولة القانون والمؤسسات وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والحريات العامة والخاصة.
فلنتمسّك به، ولنعمل على تفعيله وتطويره من خلال التشاور المستمر بين جميع مكوناته، فلبنان اليوم على مفترق طرق مصيري، فإمّا أن نعمل على إنقاذه بالتعاون والتكافل والتكامل، وإما أن نذهب إلى مغامرات ومقامرات قد تودي بالوطن والدولة إلى المصير المجهول.
والقرار في يدنا، والفرصة متاحة أمامنا للتعقّل والتعاون وتحقيق المستقبل السعيد لأولادنا وأجيالنا الطالعة.. "المواطن الحرّ والشعب السعيد".. والتاريخ لن يرحم، ولا الشعب ولا الأجيال.
فإلى متى يريدون لنا أن نعيش زمن المنطق المغيّب والذاكرة الوطنية المفقودة، وإلى متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أماتهم أحراراً؟
المُرجح ألا يتعدى انتقام طهران لمقتل أقدم "مستشار عسكري" لها في سورية، العميد في "فيلق القدس" رضي الموسوي، إثر غارة جوية إسرائيلية قرب دمشق، مستوى انتقامها لمقتل القائد السابق لـ"فيلق القدس" الجنرال قاسم سليماني قرب مطار بغداد قبل ثلاث سنوات، والذي لم يتجاوز إطلاق مجموعة صواريخ "سكود" على قاعدة عين الأسد الأميركية جرى الاتفاق عليه مسبقاً بينها وبين واشنطن، وفقاً لما صرح به الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
نذ اندلاع «طوفان الأقصى» وعلى الرغم من الضغط الذي تتعرض له حركة «حماس» والتدمير الممنهج لقطاع غزة، تلتزم طهران بجميع ضوابط الاشتباك الاستراتيجي في الجبهات الساخنة
وبما أن طهران ملتزمة إلى حد ما بقواعدَ الاشتباك في الساحات الاستراتيجية، أي لبنان، على الرغم من سخونتها، وسورية على الرغم من برودتها، فإنها لا تبدو في وارد دفعها إلى التصعيد أو الانفلات.
منذ اندلاع "طوفان الأقصى"، وعلى الرغم من الضغط الذي تتعرض له حركة "حماس" والتدمير الممنهج لقطاع غزة، تلتزم طهران بجميع ضوابط الاشتباك الاستراتيجي في الجبهات الساخنة كلبنان، وتترك الخيارات التكتيكية لأذرعها في الساحات الأخرى؛ ما يعني أنها غير معنية بأي مواجهة مفتوحة خارج حدود غزة، وهي في الوقت ذاته منفتحة على التفاوض مع واشنطن من أجل حصر النزاع وعدم انفلاته من باب حرص الطرفين على عدم الذهاب إلى حرب إقليمية.
من مسقط إلى الدوحة، نجح الطرفان حتى الآن في احتواء التصعيد، حيث استوعبت طهران سريعاً الرسالة التي وصلتها على ظهر حاملات الطائرات الأميركية؛ لذلك ذهبت إلى خيار التفاوض مع واشنطن مع الإبقاء على احتكاكها الخشن، الذي يدعم موقفها التفاوضي ويساعدها على إعادة ترتيب نفوذها في المنطقة بعد انتهاء العدوان على غزة، حيث ترغب طهران في الانتقال من استراتيجية التوسع إلى مرحلة الاستثمار وترسيخه عبر التفاوض المباشر على أعلى المستويات مع الإدارة الأميركية الحالية، مستغلة تخبطها ودخولها السباق الرئاسي بعد شهر، ما يجعلها معطلة؛ الأمر الذي تراه طهران فرصة ذهبية من أجل تثبيت أرباحها وتجنب المواجهة وخسائرها المحتملة.
مستوى التفاوض المرتفع بين الطرفين ونتائجه المقبولة حتى الآن في مسقط أو غيرها من العواصم، والانضباط الإيراني الذي أدى إلى فصل غزة عن وحدة الساحات استراتيجياً أو الحرب الشاملة، وحصره بالمواجهات التكتيكية لأعضاء المحور أو الإشغالية، كالجبهة اللبنانية، لم تلغ احتمالات فتح جبهة أخرى، بل على العكس، فقد دفعت العدو الإسرائيلي إلى التصعيد الحدودي مع لبنان ومحاولات استدراج "حزب الله" إلى مواجهة أوسع، مستفيدة من الضغط الأميركي التفاوضي على طهران ومن دعمها المطلق في أي حرب، إضافة إلى أن تل أبيب تراهن أيضاً على دخول الإدارة الأميركية مرحلة السباق الانتخابي؛ الأمر الذي يخفف عنها ضغط منع توسيع المواجهة كما جرى في الأسبوع الأول من "طوفان الأقصى".
التصريحات الإسرائيلية الأخيرة تشير إلى إجماع داخلي حول الحرب على لبنان تحت ذريعة تطبيق القرار الأممي 1701، أو إبعاد الخطر عن الحدود الشمالية وإعادة السكان إلى مستوطناتهم، وهذا ما عبّر عنه الوزير الذي يراه البعض الأقرب إلى واشنطن في حكومة الحرب الإسرائيلية غانتس بأن "وقت الحلّ الدبلوماسي على الجبهة الشمالية يقترب من النهاية"، أما وزير الخارجية إيلي كوهين فقد قال: "سنجبر (حزب الله) على التراجع إلى شمال الليطاني بالدبلوماسية أو بالحرب"، بينما الأوضح ما قاله مؤخراً قائد الأركان أفيف كوخافي عن أن قواته على جهوزية عالية في الشمال، و"تمت الموافقة على الخطط، ومستعدون للمواجهة إذا لزم الأمر".
من الواضح أن طهران و"حزب الله" أقرب إلى تجنب الحرب، ويستعدان لدخول مرحلة ترسيخ النفوذ واستثماره بعد انتهاء حرب غزة، مستفيدين من التخبط الأميركي وبعض الخلافات داخل إدارة بايدن، وخصوصاً قراءتها المختلفة عن القراءة الإسرائيلية للقرار 1701، في حين أن تل أبيب ترى أنها فرصتها الأخيرة لتكون آخر الحروب التي تخوضها؛ لذلك هي معنية بقلب الطاولة التفاوضية في مسقط وفي جرّ الإدارة الأميركية إلى ملعبها الانتخابي في السباق الرئاسي، ومع تعنت نتنياهو ودفعه بالمواجهة حتى النهاية، فإن استقرار لبنان بات على كفه.