ماذا حدث للعائلة المغربية الكبيرة؟
الذين هاجروا لم يعودوا، والذين عادوا لم يعودوا، أيضاً!
ماذا حدث للعائلة الكبيرة؟ جاءت رياحُ سمومٍ عاتية، وشتّتت البيت والأهل إلى كلّ مكان، وفي كلّ مكان: شمالاً، جنوباً، شرقاً، غرباً... وأيضاً، إلى فوق، حيث السحاب والطيور المهاجرة والملائكة. وإلى تحت، حيث الجذور والقبور والكنوز التي بلا خرائط.
حقاً، ماذا حدث للشجرة الشاهقة المعمّرة التي تركناها وحيدة وعطشى ترتجف في باحة الدار؟ وماذا حدث للجدّات اللائي رفضن الهجرة، الجدّات، الجميلات، الحنونات، اللائي تشبّثن بحقولهن الصغيرة، بدجاجاتهن، وبركائز الدور المهجورة... الجدّات المقعدات اللائي لم يعد بإمكانهن أن يهاجرن، ولا أن يقمن.
ما الذي حدث لهذه الأوطان من المحيط إلى المحيط؟ أي "أبوكاليبس" هذا؟ أستعيد شريط الهجرة والنزوح كلما سهوت، كلما رأيت نهراً أو شاطئاً أو طيوراً تحلّق، أراه سريعاً، يمرّ أمام عيني: قوارب موت ومهرّبون، كامبات وخيام، غابات وأنهار، جوازات سفر وتأشيرات مختومة بالدم، خفر سواحل وحرس حدود مسلحون، لغات غريبة ولغات عدائية تحقّق مع الأمّ عن رضيعها، وتحقّق مع الرضيع عن أمّه.
وأما أنا، فتكسرني نظرة الأب المكسورة، نظرته العزلاء، نظرته الباكية دون دموع، نظرته المصفّدة، والتي رغم كلّ شيء، لا ينقصها الكبرياء، ولا ينقصها الدفاع عن الأهل و...
والذين هاجروا أولاً، تاركين بقية العائلة في البلاد تحت القصف، أتساءل: أيّهم سينقذ الآخر؟ الذين هاجروا أم الذين ينتظرون؟ أيّهم سيقذف طوق النجاة في اتجاه الآخر؟ أيّهم سيغرق أولاً في البحر أو تحت الأنقاض؟ وأيّهم سيبقى حيّاً لتبقى البلاد حيّة في عينيه، في صمته الطويل، وفي تنهداته، ليعود للبلادِ ربيعها، تعود إليها أعيادها القديمة وأعراسها على صهوات الخيول الأصيلة...
حين ننام على أطراف المدن الصناعية الكبرى، داخل حقائب النوم المحمولة، لا تكون أحلامنا بلغات البلدان التي نلجأ أو نهرب إليها... بل بلغة أمهاتنا.
على متن المترو الأخير، أرى بوضوح آثار الحرب في وجوه الذين هربوا من حرب كما في وجوه الذين ليس في بلادهم حرب، فالذين هربوا من الحرب في قارب واحد (سيان) مع الذين هربوا من السلم لا يميّز بينهم سوى الغرق.
وماذا حدث، وسيحدث للأحفاد الذين ولدوا، والذين سيولدون في أراضٍ أخرى بعيدة، والذين سيولدون في لغات أخرى، في جغرافيات قصية وقارسة، والأحفاد الذين ولدوا في قوارب التهريب، في الغابات وفي مرائب السفن وفي الكامبات... ماذا سنقول لهم غداً حين تشرق الشمس ويعود الربيع؟ وماذا سيقولون لنا؟
ماذا سنقول لهم، نحن الذين تشتّتنا في شوارع العالم؟ نحن الذين نقف في طابور طويل أمام مراكز اللجوء، وفي أيدينا بقية من تراب البلاد، وفي أنفاسنا زعتر برّي موحش، وحين ننام على أطراف المدن الصناعية الكبرى، داخل حقائب النوم المحمولة لا تكون أحلامنا بلغات البلدان التي نلجأ إليها، البلدان التي نهاجر إليها، البلدان التي نهرب إليها... بل بلغة أمهاتنا؟