مأساة سليمان الريسوني
أصدرت محكمة الاستئناف بالدار البيضاء، مساء الجمعة الماضي، حكمها القاضي بالحبس النافذ للصحافي سليمان الريسوني، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم"، المضرب عن الطعام لأكثر من 90 يومًا، لمدة خمس سنوات، على خلفية تُهم أخلاقية أجمعت منظمات حقوقية، مغربية ودولية، على زيفها.
هذا الحكم الصادم جاء بعد الاعتقال التعسفي الذي طاول الريسوني لأكثر من عام، قضى منه 8 أشهر دون أن توجّه إليه أيّ تهمة، كما لم يسمح له بالاطلاع على محضر الاتهام إلّا بعد 11 شهرًا من حبسه.
وقد رفضت المحكمة كلّ الطلبات والملتمسات المقدّمة من لدن دفاع الريسوني، دون أي تعليل يُذكر. بل وقد تمّ تغييب الريسوني عن حضور جلسات محاكمته قسرًا رغم إصراره على الحضور، وهو الذي يعيش وضعية صحية جد صعبة، إذ أصبح غير قادر عن المشي أو الحركة أو الكلام بشكل طبيعي، كما جاء على لسان دفاعه.
وتعمّدت المحكمة إذن تغييب الريسوني لمجموعة من الأسباب، أهمها الوجل من مشاهدة الحاضرين في جلسات المحاكمة لجسده النحيل والمهزول، بفعل إضرابه القاسي عن الطعام الذي دام لأكثر من 90 يومًا، احتجاجًا على الظلم الذي اكتوى بناره. فلم يُستنطق على أثر ذلك، وبالتالي لم يستطع الدفاع عن نفسه. كما أن دفاعه قد غُيّب في الجلستين الأخيرتين اللتين تمّت خلالهما مناقشة جوهر القضية والنطق بالحكم.
والمُدهش في هذه المحاكمة يتمثل في غياب أيّ وسيلة إثبات تبرهن على جريمة "هتك العرص والاحتجاز" التي يدّعيها الطرف المدني. فقد رفضت المحكمة استدعاء الشاهدة (الخادمة) التي يقول دفاع الريسوني إنها كانت بالبيت إبّان حدوث الواقعة المزعومة، كما لم تطلب الخبرة الطبية، وكلّ هذه الإجراءات تلجأ إليها المحاكم المغربية بانتظام، باستثناء في حالة التلبس أو الاعتراف، وهو ما أدّى بالجمعية المغربية لحقوق الإنسان (المنظمة الحقوقية الرئيسية في المغرب) إلى وصف هاته المحاكمة بـ"الصورية" التي قُطعت فيها "أوصال العدالة وانتهك فيها عرض القانون، واستغل فيها القضاء لتصفية حسابات مع صحافي مزعج للسلطة".
يبدو أن هدف السلطة هو أن يستمر "الصحافي المشاغب" في الامتناع عن تناول الطعام أطول مدة ممكنة ولسان حالها قول الحجاج أبو محجن الثقفي لجلاديه عن معارضيه: "لا تطلقوهم إلّا وفي أجسادهم مشغلة لهم إلى الأبد"
قبل اعتقاله بأشهر، تعرّض سليمان الريسوني لحملة تشهيرية واسعة، تزعمتها "صحيفة" إلكترونية تفخر بقربها من السلطة. وتوعّدت هذه "الصحيفة" الريسوني بالاعتقال قبل أشهر من حدوثه، بل المثير في الأمر أن "الصحيفة" نفسها نشرت شريط اعتقال الأخير من لدن عناصر الأمن من أمام بيته، لتقدمه عبرة لكل الصحافيين المستقلين عن النظام. و"الصحيفة" نفسها كانت قد هددت المؤرخ والصحافي معطي منجب والصحافي عمر الراضي بالاعتقال في زمن محدد، وهو ما حدث فعلًا، وهي التي تواصل تحذيراتها وتوعداتها ضد الصحافيين والنشطاء المنتقدين للسلطة.
وتقول إدارة السجن في بيانات متتالية منذ أسابيع إن سليمان غير مضرب عن الطعام، وفي الوقت نفسه "تحجبه" عن الأنظار، إذ تشارك في خرق حقه في الدفاع عن نفسه أمام المحكمة. ويبدو أن هدف السلطة هو أن يستمر "الصحافي المشاغب" في الامتناع عن تناول الطعام أطول مدة ممكنة ولسان حالها قول الحجاج أبو محجن الثقفي لجلاديه عن معارضيه: "لا تطلقوهم إلّا وفي أجسادهم مشغلة لهم إلى الأبد".
إنّ الاستبداد- كما يقول عبد الرحمن الكواكبي- عدو الحق والحريّة وقاتلهما، وها هو سليمان الريسوني اليوم "يُقتل" ببطء وعن سابق إصرار بعدما اقترب من إكمال مائة يوم من الإضراب عن الطعام من لدن "أقوياء" في الظل، فهم يتحاشون الواجهة بإصرار، كان سليمان ينتقدهم أحيانًا بالتلميح ومرات أخرى بالتصريح في افتتاحياته وتحقيقاته الصحافية، وها هو يؤدي الثمن!