ليس الموت شيئاً آخر غير النسيان

29 يوليو 2023
+ الخط -

كان بإمكاني دائماً أن أجلس طويلاً في غرفتي كما لو في سُبات شتوي حتى في الصيف، دون أن أرى أحداً، أو أن يراني أحد. حتى حين أخرج أتحاشى النظر إلى الوجوه، خصوصاً إلى العيون الأسيانة والعيون الفضولية، وهي كلّها كذلك. أنظر أمامي فقط، أو إلى الشجر والقطط والكلاب الضالة، وفي الغالب إلى السماء، حيث يأخذ الحيّ انعكاسه التجريدي في السماء، ويتساوى كلّ شيء.

تلك السماء نفسها فوق حيّ أبي رقراق هي هذه السماء نفسها التي أحدّق فيها الآن من نافذة القرميد الصغيرة. أحدّق فيها وأتذكر دون معالم، أتذكر كلّ شيء دون أن أتذكر شيئاً، كلّ شيء تجريدي كعطر.

كان بالإمكان أن أظلّ أياماً حبيس غرفتي، كما فعلت دائماً، تاركاً للنهارات وضجيج الباعة وهرج الأطفال والعراكات المفاجئة بالسواطير أن تمرّ كلّها بعيداً. أمسح أوراقي جيداً، وأكتب رغم أنّ عدوى المكان تصل إليها باستمرار وبإصرار. "كحات" العجزة تصل إلى قصائدي من بلاد أخرى... آه من تلك البلاد! بائع النعناع يصل برفقة الفجر قدماً بقدم، والمتسوّلة العمياء أيضاً تتعب، فتقتعد حجراً بين كلماتي. أغمض عينيّ وأرى أمّي بجلبابها ودرّتها ذاهبة إلى السوق، وفي يدها قفة عتيقة من الدوم، لا أرى وجهها، أراها من الخلف فقط وهي تبتعد بينما رائحتها تُقيم في البيت لتدلني على قلبي. لم أكن لأرى كلّ ذلك، بل كنت أحسّه دائماً، أحسّه فقط، تجريدياً وغائماً، حتى وأنا مقيم فيه.

أنهض وأتمشّى في الغرفة بقميص النوم الأبيض وبالشورت فقط، السيجارة في فمي منطفئة، أذرع الغرفة جيئةً وذهاباً كسجين في زنزانة انفرادية، أقف وأطلّ من شقوق النافذة دون أن أفتحها، كمن يفكر في الهرب، ثم أعود إلى مكتبي أو إلى سريري لأكتب. الشمس مشرقة، وأنا أتركها تمرّ ببطء شديد فوق بيوت الصفيح العشوائية دون أن أخرج. أنتظر الليل كالعادة. يختفي نصف العالم في الليل، أحبّ الخروج والمشي كسائحٍ في ذلك النصف المخفي فقط.

كان النهر جاري ورغم ذلك لا أزوره. تمرّ شهور طويلة دون أن أراه. دون أن أرى شيئاً تقريباً. تحكمت في الوقت أكثر مما تحكّم فيّ. فرضت عليه أن يسير على إيقاعي عوض أن أسير على إيقاعه، والشمس التي كانت تدخل من شقوق النافذة حجبتها بالكتب، جعلتها تغرب صباحاً خلف صف من كتب الشعر التي لا تبيع (كما يقول الناشرون!).

لا أذهب إلى الحكايات بل أتركها تصل إليّ، مغمضاً عيني أو ناظرا إلى التجريد المطلق في السحب والغيوم

أجلس في المساء وحيداً في مقهى الحرفيين، مواظباً عليها دون غيرها، كما لو أنّي صبّاغ أو نجار أو بائع نعناع، لا أنظر حولي بل أسمع فقط. لا أذهب إلى الحكايات، بل أتركها تصل إليّ، مغمضاً عينيّ أو ناظراً إلى التجريد المطلق في السحب والغيوم.

وهنا، في هذا الابتعاد البعيد أيضاً، ما زالت الحكايات تصل إلى أذني بألوانها وروائحها وحرارتها وبنبرات أصوات الحرفيين وسعالهم...

لا أقيم أبداً في المكان، بل في ذاكرتي. إنها الأرض الوحيدة التي أنتمي إليها. أقارن أرض حيّي بهذه الأرض الجديدة على قدمي، لا أجد فرقاً، إنها الأرض نفسها، التراب نفسه، أوراق الأشجار نفسها والحشرات الصغيرة نفسها. أقارن هذه السماء بسماء حيي، إنّها نفسها أيضاً، ملغزة بالسحب ومن دون ملائكة. أقصد الغابة باستمرار حيث تنتفي معالم الاختلاف، تمّحي الفروقات وتضمحل. إنني فوق الأرض إذن، وهذا هو ما حدث دائماً، سوى أني بعيد، ليس في المكان أو الزمان، بل في ذاكرتي.. أفكر في العودة كلّ يوم، وكلّ يوم أيضاً، أتساءل: أين أعود؟ ولماذا أعود؟ ولا شيء لي على هذه الأرض سوى ذاكرتي وأوراقي.

هل نهر أبي رقراق يجري فوق تراب؟ هل تلك الرائحة لصيقة بذلك الهواء؟ هل الناس الذين عرفتهم ليسوا سوى أجساد وصور، خارج جسدي وخارج إطار صورتي؟

كلا. النهر لا يجري فوق أرض، بل داخل ذاكرتي، كلّ يوم أسمع خرير مائه. الناس أيضاً يمشون إلى شؤونهم مسرعين أو يثرثرون داخل مقهى سوى أنّ رائحة شايهم بالنعناع كلّها تصل إلى أنفي، داخل ذاكرتي. العالم كلّه يحدث في ذاكرتي وأنا أحملها معي أينما ذهبت، ملأتها بكلّ شيء وأقفلتها كما أقفلت حقيبتي قبل أن أغادر.

ليست المسافة هي ما يبعد وينفي، بل النسيان

هل ستشيخ أمي وتتعب وتمرض وتموت؟ كلا. إنّي أحتفظ بها، كما بأبي الذي رحل، شابين في ذاكرتي، مبتسمين وسعيدين. اليوم، كما أمس، كما غداً. ليس الموت شيئاً آخر غير النسيان. إنّي أراهما دائماً هكذا: أمي تتسوّك وأبي يجرّب طربوشه الجديد ورائحة عشاء لذيذ وأبدي آتية من المطبخ.

أتحكم في الوقت وفي المكان ولا أترك لهما أن يتحكما في شيء أو أن يُغيّرا شيئاً.

ليست المسافة هي ما يبعد وينفي، بل النسيان.

والآن، وأنا بعيد في هذا الهدوء البارد والمحايد، في هذا الجليد غير العدواني، أتذكر أكثر مما كنت أتذكر وأنا هناك. أعيش الآن هناك أكثر مما مضى. سوى أنّي استطعت خفض صوت العالم وتحسين جودة صوره والممثلين داخله أصبحوا أنيقين وبشوشين ويرطنون بلغة أخرى تجريدية كالسماء.

ها هو النهر يسير إلى مصبّه فوق أوراقي، ها هي أمي تفرق شعرها بمشط العاج، ها هم الحرفيون يقهقهون بعد يومٍ طويلٍ ومضنٍ من العناء، وها هي الدوريات اليتيمة غير الملوّنة، تحطّ فوق كلماتي باحثة عن شقوق لتُعشش فيها... أبعد ما يكون عن أعين المقدّم والقائد ورقابة الأمر بالطاعة والنهي عن الحرية.

محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.