لماذا نقع في الحب؟

22 ابريل 2023
+ الخط -

تقع في الحب. إنها جميلة. شيءٌ ما يجذبك إليها بقوة، لا تدري كنهه بالضبط إلا أنك تستسلم له. ليس كونها جميلة فقط، بل دون شك، ثمّة شيء آخر خفي لا تدركه.

تضطجع على فراشك وتحلم، بينما أغنية رومانسية من الزمن القديم تصدح قادمة من الحاسوب. إنك شبه مخّدر، مبتسم وشارد، سعيد دون سبب.

 تتنهد، ينادون باسمك فلا تسمع، إنك غارق في عالمك الفقاعي اللذيذ، لا تريد لأحد أن يفرقعه بضجيجه. لقد وقعتَ، فعلاً في الحبّ كما يقع فيه الجميع مرّة واحدة في العمر على الأقل، أو على الأكثر.

هي أيضاً، يحدث لها ما يحدث لك. لقد وقعت في الحبّ أيضاَ، تقف أمام المرآة تمشّط شعرها ببطء، مبتسمة وشاردة. ماذا حدث لها بالضبط؟ هي نفسها لا تدري، تشعر أنّها تتفتح كزهرة سعيدة... تريد أن تطير. تُغلق عليها الغرفة، تنظر إلى السقف، تدور حول نفسها، وتدور وتدور... كمتصوّفة بالجبّة، فستانها يأخذ شكل وردة، تدوخ، تسقط فوق سريرها ضاحكة، ناظرة إلى السقف، إلى ما خلف السقف، إلى السماء، إلى السحاب الناصع والشمس المشرقة والفراشات والعصافير... بينما الموسيقى تصدح من هاتفها. إنها موسيقى الحب والأشواق واللهفة. قلبها يخفق ويخفق، تعضّ شفتها السفلى كما لو أنّها تكتم سراً. لا تريد أكلاً، لا تريد شرباً، لا تريد أن يطرقوا بابها، لا تريد أن يقطعوا عزلتها اللذيذة بثرثراتهم. تريد فقط أن تبقى على سريرها مخدّرة، مبتسمة وشاردة، تتنهد وتحلم. لقد وقعت دون شك في الحب. هذا الحب الذي يقع فيه الجميع كوقوع مزهريات جميلة (دون قصد) فوق الخرسانة..

العشرة

تمرّ أيام قصيرة كأنها الدهر. أخيراً يتمشّى العاشقان جنباً إلى جنب، يمسك يدها من الحديقة إلى السينما... إلى الشاطئ. يتأملان الأفق حافيين، قدمها مبتلة، تسند رأسها على كتفه. يصمتان، يتمشيان من جديد، تركض هاربة ويتبعها. تقهقه كطفلة، يمسكها أخيراً، ويتدحرجان. تشعر بالرمل والقواقع تدغدغ جسدها الغضّ. يشمّ رائحتها ممتزجة برائحة البحر والسمك والسفن والهجرات اللانهائية. يتنهد، يُلصق شفتيه بشفتيها، يتنفسان بعضهما، يتبادلان ريقيهما، بعيون مغمضة.... قبلة طويلة، ثم قبل أخرى بلا نهاية. يجلسان ويتأملان الزوارق ويتنهدان. الشمس تغرب في الماء، تستند بيديها على الرمل خلف ظهرها بينما يصلب يديه حول ساقيه. 

تريد فقط أن تبقى على سريرها مخدّرة، مبتسمة وشاردة، تتنهد وتحلم... لقد وقعت دون شك في الحب

يمكنك رؤيتهما من بعيد، ظلان في الغروب، ظلان طويلان، ظلان أبديان متشابكان في قبلة. 

تتضاعف لقاءاتهما. يتحول الصمت إلى كلمات واللهفة إلى وصال، يقتسمان كلّ شيء: البيت والمعيشة والجسدين... ينامان على سرير واحد. 

تمرّ الأيام، الشهور ثم السنوات. يخفت الحب (دون قصد) شيئاً فشيئاً. تتوارى اللهفة، يضمحل الشوق، لا يفهم ماذا حدث؟ لا تفهم ماذا حدث؟

الفراق

سنوات طويلة تمرّ كأنها برهة، ولا شيء جديد. الملل يتسرّب من النوافذ والأبواب والشقوق. الفتور يستعمر البيت، الجسد، الروح. الأخبار رتيبة في التلفزيون. 

هي: تقرقع الأواني في المطبخ بعد العشاء. 

هو: يطوي قمصانه. 

البيت واسع وكئيب رغم أنه صغير. صرير أبواب الغرف والجوارير يحدث شروخاً أعمق في النفس بعد العاشرة مساء. فستانها الأحمر الكرزي الضيّق لم يعد مثيراً ولحيته المحفّفة بدقة، لم تعد مغرية. 

ينام باكراً ويستيقظ باكراً. تشاهد مسلسلاً وحيدة. لقد زاد وزنها قليلا. لقد غزت رأسه "شيبات" مباغتة. تطفئ الأضواء،  تتجه إلى السرير، تضطجع قربه، ظهرها إلى ظهره، ثمّ تتثاءب وتنام في دقيقة. إنهما هامدان، مرئيان في الظلام في إضاءة النافذة، ظلان أبديان للنهاية.

دائماً هناك غيوم محمّلة بالأمطار تنتظر أن يفترق عاشقان 

يرن المنبه، ينهض وتنهض هي أيضا دون أن تفتح عينيها. يأخذ دوشاً. تتقلب في نومها على بطنها. يفطر. يتأكد أنه وضع كلّ شيء في حقيبته، يغلقها ويرحل. صَفقُ الباب يوقظها من جديد، تسمعه في أحلامها المضطربة، تواصل نومها. تدخل الشمس من النافذة. تنهض، منتصف النهار، تأخذ دوشاً، تمرّر يديها على نهديها دون لذة. ترتدي ثيابها، توّضب حقيبتها على مهل. يصل التاكسي. تنزل. معطرة وأنيقة لكن بفتور. يبتعد التاكسي. تتأمل كلّ شيء يتراجع إلى الوراء من النافذة الخلفية. يتأمل هو أيضاً كلّ شيء يتراجع إلى الوراء من نافذة قطار. لقد انتهى كلّ شيء... تُغيّم السماء وتقرقع الريح فوق سقوف بعيدة وموحشة.

المطر

بعد الفراق يتهاطل المطر. دائماً هناك غيوم محمّلة بالأمطار تنتظر أن يفترق عاشقان. سينام الآن وحيدا، يستيقظ معتقداً أنه ليس وحيداً، يتذكر بعد ذلك أنه وحيد، فيعود إلى النوم وحيدا. يدخن في المطبخ، يترك الأواني مكدّسة في المجلى. يخرج صباحاً إلى الحديقة دون معطف، لحيته غير مشذّبة، وفي يده قهوة دون سكر يصعد منها البخار... يتأمل المطر، لقد انتهى كلّ شيء. إنها تمطر فوق الذكريات القديمة المضبّبة، فوق القصص الجميلة، فوق الأشواق وفوق اللهفة.

مطر رتيب وموحش، مطر دافئ ومنعش، طحالب على البلاطات بلون أخضر مشع تُضاعف الوحشة. كلب الجيران يعوي، العصافير سعيدة، النهار ينقضي سريعاً، إنه المساء الشتوي. لقد انتهى كل شيء. 

مضطجعة على السرير مساء، على سرير جديد. تحزم رأسها بمنديل داخله شرائح ليمون، بينما صوت التلفزيون يموء كما لو أنه قادم من قبو، ثمّة مسرحية هزلية... الجمهور يقهقه. تنعكس إضاءة التلفزيون على الحائط، زرقاء، باهتة وبرتقالية. إنها محمومة. يغزر المطر بغتة، وتعوي الريح كمزمور سفينة تقلع في الضباب... لقد انتهى كلّ شيء.

 جهاز التحكم التلفزي تائه داخل الفراش، لا تجده. تنام، بينما يواصل التلفزيون بثّ المسرحية التي لا تقطعها سوى بعض الإعلانات وقرقعات الريح فوق سقوف موحشة، وسوى الرعد داخل الروح.

دلالات
محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.