لماذا لا تنجح انتفاضات العراقيين؟

13 اغسطس 2022
+ الخط -

طيلة الفترة التي أعقبت احتلال العراق عام 2003، وتشكيل النظام السياسي الجديد الذي توالت عليه حكومات عديدة تميزت بفسادها وإجرامها بحق الشعب العراقي، لم يهدأ العراقيون وقادوا انتفاضات وثورات عديدة ضد هذه الحكومات، وضد من يدعمها من دول الجوار، ورغم كل تضحياتهم الجسام لكنهم لم يصلوا إلى تحقيق أهدافهم في تخليص البلد مما هو فيه من سوء، وانتزاع سيادة العراق من النفوذ الدولي والإقليمي. فيا ترى ما هي أسباب الفشل الرئيسية؟ وهل يمكن تداركها والانطلاق من جديد في تجربة ناجحة؟ وبالرغم من أن هذا المبحث طويل ومتشعب، إلا أننا سنركز على أهم تلك الأسباب ونضع الحلول المقترحة لتجاوزها.

غياب مفهوم الهوية الوطنية

أحد أهم الأسباب التي جعلت انتفاضات وثورات العراقيين تفشل في الوصول إلى أهدافها هو غياب وتشظي مفهوم الهوية الوطنية العراقية، ووصل الحال بكثير من العراقيين إلى أنهم لا يعرفون هويتهم بشكل دقيق، ويرجع سبب ذلك إلى الجهود التي قام بها المحتل، سواء أميركي أو إيراني، في تغييب مفهوم الهوية الوطنية لدى الجماهير، ووصل الحال بالعراقيين، في السنوات الأخيرة، إلى اللجوء إلى الهوية العشائرية أو الدينية أو القومية ليشعروا بالانتماء والحماية في بلد أصبح من العسير على المواطن أن يتمتع بحماية كافية لنفسه وعائلته أو حتى أمواله. سبَّب ذلك تشظي المجتمع العراقي، وأصبحت روح الأنانية هي الطاغية، وبدأت تظهر الدعوات للانفصال وتشكيل الأقاليم على أساس القومية أو الطائفة أو المنطقة، من دون التفكير بكامل الوطن، وأصبحت الهوية الوطنية هي آخر ما يفكر به العراقيون.

وفي هذا الصدد، نعتقد أن المثقفين العراقيين لم يأخذوا دورهم الحقيقي في تعزيز الانتماء للوطن بشكل صحيح، بل إن كثيراً منهم انساق لدعوات الانفصال وبدأ الترويج لها بدلاً من الترويج للوطن الواحد. فالجميع يعلم أن الشعوب تكتسب ثقافتها ومبادئها وقيمها من مفكرين وأدباء ومثقفين في بلدهم، فعليهم يلقى هذا الدور المهم والخطير في تشكيل الوعي المجتمعي لدى الجماهير، وتوحيد رؤاهم في بوتقة واحدة. وهذا ما لم يحصل مع الأسف عندنا في العراق.

ونعتقد أن الشعب العراقي وبسبب أنه مُشكل من عدد من القوميات والأديان والطوائف فمن الجيد أن نرجع بشعبنا إلى تعزيز شعوره بالانتماء إلى الشيء الذي يوحده، ولنا في تاريخنا العراقي ما يعزز مثل هذا الانتماء، فهوية الرافدين التي تضم حضارات العراقي القديم جميع العراقيين وبكل أطيافهم يشعرون بالانتماء إليها والاعتزاز بها. فإذا ما عززنا الانتماء لهذه الهوية الوطنية العراقية الضاربة في التاريخ، يمكننا أن نوحد العراقيين عليها، ونجعل منهم شعباً له هوية وطنية يعتز بها ويدافع عنها ولا يفكر بالانفصال لتشكيل دويلات أو كانتونات صغيرة متفرقة ومتناحرة.

غياب القيادة الموحدة

السبب الآخر الذي لا يقل أهمية هو أن جميع الانتفاضات والثورات التي قادها شعبنا العراقي كانت تفتقر إلى قيادة موحّدة تقود جميع فعاليات الشعب العراقي، فتجد أن غالب الانتفاضات كانت مناطقية، أو على أساس عرقي أو طائفي، ففي الوقت الذي يثور فيه شعبنا في الجنوب لا تجد من في الوسط والشمال يتفاعلون معهم، ونفس الحال حينما يثور الوسط أو الشمال، وهذا التمزق بين مكونات المجتمع العراقي كان له أكبر الأثر في جعل مهمة قمع تلك الانتفاضات والثورات سهلة على المحتل أو حكومات ما بعد الاحتلال، وتنتهي ثوراتهم إلى لا شيء. وبالتالي فإن العمل على تشكيل قيادة موحدة لجميع نضالات العراقيين مطلب مهم وحيوي.

أضف إلى ذلك أنه من الضروري أن يكون للانتفاضات جناحان يتحركان بنفس الوقت، جناح علني يقود التظاهرات والاعتصامات والعصيان المدني وغيرها من الفعاليات الشعبية، يرافقه تنظيم سري يقود العمل خلف الكواليس ويقوم بمهمة الدعم اللوجستي وتقديم الدعم المعلوماتي وتنظيم الجماهير وقيادة النضال السياسي. هذا ما فعلته شعوب كثيرة حينما خاضت نضال التحرر والاستقلال ونجحت في مساعيها.

فريق يقود وليس فرداً

ومن الملاحظات المهمة التي يجب أن نشير إليها أن عصرنا الحديث الذي نعيشه لا تجد مكاناً فيه للقائد الوحيد الذي لا يخطئ ولا يُقصّر، وأصبح من الغباء أن تكلف شخصاً واحداً بقيادة مصير أمة يتحكم بها بمفرده، وبالتالي فإن من المهم أن تكون هناك قيادة على شكل فريق، يتم تشكليه من خلال انتخابهم من باقي المناضلين، شرط أن يكونوا من المتخصصين في كل ميادين النضال وأساليب بناء الدولة الحديثة، فليس من المعقول أن يكون هدف الجماهير هو إسقاط النظام الفاسد دون أن تكون لها نظرة دقيقة وثاقبة للبديل الذي يقدّم للشعب مستقبلاً، وعلى هذا الأساس، يجب أن يكون فريق القيادة مختصاً في السياسة والاقتصاد والعلوم والتربية وكافة الاختصاصات السيادية الأخرى التي تبني الدولة، وبهذا الشكل تكون قراراتهم وقيادتهم للحراك الشعبي، سواء قبل إسقاط النظام أو بعده، هي قرارات حكمية وبعيدة قدر الإمكان عن الخطأ. بينما إذا كان هناك قائد واحد يتولى جميع تلك المهام فإنه سيكون معرضاً للخطأ وربما للغرور أو التفرد بالقرار، لأنه في النهاية هو بشر ويصيبه ما يصيب جميع الناس من أمراض اجتماعية، والعصمة من تلك الأمراض هي القيادة الجماعية.

القيادات الرمزية

بنفس الوقت، نحتاج إلى قيادات رمزية تظهر إلى المجتمع بمختلف الوسائل الإعلامية، ويكون على عاتقها توحيد الرأي العام على فكرة الثورة، وحث الجماهير على الاستمرار بالنضال، وكسب محبتهم والتي ستنتقل فيما بعد إلى محبة من يقوم بهذا الحراك الثوري والامتثال إلى خططه، لكن دون أن يكون لهؤلاء القادة والرموز الظاهرين أي دورٍ في صنع القرار أو التفرد بالقرار، إنما يكون القرار هو للقيادة الجماعية البعيدة عن الأضواء والتي تعمل في الخفاء دون لفت الأنظار إليها من قبل السلطات.

ونعتقد أن إعداد تلك الرموز ليس مهمة صعبة، والعمل على توجيههم بلغة الخطاب التي تناسب قوى الثورة، ومن خلالهم ترسل قيادة الثورة رسائلها إلى الشعب أو إلى النظام أو حتى إلى المجتمع الدولي بما تريده الثورة. وهذا التكامل بالعمل وتنسيق الأدوار وتوزيعها بشكل دقيق بين أفراد الثورة، هو الذي يضمن الانتصار والوصول إلى الأهداف.

هواجس وتساؤلات

ونحن نتكلم بهذا الأمر، ستطرأ على ذهن البعض هواجس وتساؤلات حول مدى جدية مثل هذا العمل، أو قدرته على الوصول إلى الأهداف، ومن أهمها:

أن عملاً بهذه الدقة يحتاج إلى وقت طويل وإمكانات كبيرة، وفي العراق لا نمتلك ذلك الوقت، وليس لدى شعبنا الإمكانية. ونقول، ماذا فعلنا حينما مر ما يقارب الـ 20 سنة ونحن نراوح في مكاننا، بل نتراجع بخطوات كبيرة إلى الوراء، أليس الأجدر أن نعكف على تنظيم أنفسنا وننطلق بقوة بدلاً من الأعمال المتهورة بحجة عدم امتلاكنا الوقت الكافي؟ فالثورات التي تخرج سريعاً بدون تنظيم سرعان ما تفشل، وحتى نعيد الكرَّة مرة ثانية، نحتاج إلى سنين، وهكذا نخسر وقتنا وأعمارنا من دون أن نصل إلى أهدافنا.

أما من ناحية الإمكانات، فإننا نعتقد أن الشعب إذا لمِس الصدق والجدية من قادة الحراك وأفرادهم سوف يبذل الغالي والنفيس لأجل إنجاح الحراك، فالعراقيون مستعدون لدعم أي حراك يخلصهم من الضيم الذي يعيشونه. فكيف إذا قدمنا البديل الصادق والنظيف لهذا التغيير؟ وهنا أريد أن أشير إلى أن مثل هذه الحراكات لا تحتاج إلى إمكانات مادية كبيرة، فالحراك الشعبي يقوم به الشعب وسيقدم بعض الميسورين من أبناء وطننا الدعم اللوجستي لهم، أما التنظيمات السرية التي تقود كل عمليات الثورة، فيجب أن تكون تنظيماً رشيقاً لا يعتمد على كثرة الأعداد، إنما بضع مئات من المناضلين سيكونون كافين لهذه المهمة، وفعاليتهم ستكون مستندة إلى كفاءتهم بالمقام الأول.

كاتب عراقي
كاتب عراقي
نظير الكندوري
باحث سياسي وكاتب عراقي.
نظير الكندوري