لماذا خذلتهم يا صلاح؟
عندما سمعت أو قرأت أن مباراة هامّة ستجري بين فريقين شهيرين في ميعاد محدد، وأن الفائز في المباراة تلك سيتوج بكأس ما مهم أيضا، وأن كلا اللاعبين المحبوبين محمد صلاح وكريم بنزيمة سيكونان حاضرين وسيسعيان جاهدين للفوز باللقب، وأن جمهور كرة القدم برمته متأهب للقاء ومنتظر بفارغ الصبر ما ستؤول إليه النتيجة..
كنت جالسا كغيري من الملايين المترقبين، أشاهد الحدث الكبير وأنا أحتسي الشاي ببطء وقلبي يخفق مع كل ركلة وتمريرة وهجمة مرتدة. قد تكون كرة القدم هوايتي المفضلة فعلا، أما تتبع أخبارها فأمر لا أحبذه ولا أهتم به على الإطلاق.. وحسبي أني أكتفي من وقت بعيد لآخر بمتابعة مباراة أو اثنتين تكونان على درجة كبيرة من الأهمية "هذا على صعيد الأندية"، وربما أكثر إن كانت المواجهات بين فرق تمثل بلدانها.
هذا هو النهج الذي قعدت معه يؤنسني بصحبته في ذلك اليوم وأنا أتابع لوحدي نهائي دوري الأبطال، وإذ بالمباراة العصيبة تنتهي ونتبين النتيجة ونبارك لـ"الرياليين" إحراز ناديهم لقب البطولة للمرة الرابعة عشرة في تاريخه الكروي الحافل بالأمجاد والانتصارات. واكتفيت أخيرا بمشهد الفريق الملكي وهو يحتفل حاملا كأسه الذي استحقه عن جدارة وتعب.
استيقظت في اليوم التالي على نبأ عظيم وخطب جلل بين الخلائق، وهو أن "فخر العرب" قد أنزل عليهم بغتة مصائب الدنيا بأسرها، بل وربما حملوه أوزارها إلى يوم الدين. ولم يكن ينقص إلا أن يعيروه بـ"الأفكح" حتى تتشفى النفوس منه وترتاح.
لقد التبس الأمر على هذا الجيل حتى ظن "صلاح" هو "كابتن ماجد" العصر الذي لا يعرف الخسارة ولا تقهره الخصوم. لا تحتاج إلى خبير رياضي ليخبرك مثلا عن سبب اشتياقنا طوال المباراة لحارس ليفربول البرازيلي أليسون بيكر، الذي نسيت شكله حرفيا وقد تموضع فريقه عند مرمى الريال لا ينفكون عنه وعن حارسه البلجيكي العملاق تيبو كورتوا.
كان الوقت مساء في أحد الأيام العصيبة تلك، عندما علا الهتاف والصراخ من صوب جمهرة من الناس حتى ظن الصديقان أن طارئاً ما قد حدث
إن ما شاهدناه في مساء الثامن والعشرين من الشهر الماضي على ملعب "استاد دو فرانس" بالعاصمة الفرنسية باريس، هو من أجمل ما تقدمه الساحرة المستديرة لمعجبيها ترفيها وإمتاعا..
أنا لا أتحدث هنا عن تعليقات أنصار النادي الإنكليزي التي أثنت بغالبيتها على أداء النجم المصري وزملائه في المباراة، بل والحارس البلجيكي كورتوا الذي بدا وكأنه جدار من الطوب يغطي المرمى كما علق أحد المشجعين، ولا بغيتي الخوض في مجال لست مختصا فيه بالمرة، إنما وجدت في آراء إخواننا العرب المجحفة بحق "فخرهم" وغير العرب أيضا، ما يجعلني أقف عنده وأفكر وأتأمل، وقد استفحل أمره واستشرى كالريح العقيم ولا أبالغ.
ولطالما تساءلت في نفسي عن معنى أن تكون مواليا عريقا لفريق ما.. تنحاز له وتنطق باسمه، أن ترتدي قمصانا وتخلع أخرى، وتحتفي بهذا وتذمه في ما بعد، وتهاجم الآخر فتصبح نصيرا له حتى الموت، وأنت لا تملك من هذا أو ذاك لا مالا ولا جاها ولا شهرة.
بعد تلك المباراة بالذات قلت لأحد الأصدقاء إن أداء ليفربول كان أفضل بكثير من خصمه، فأجابني وقد ظن أني من أنصار الإنكليز "لا يهم.. فقد فزنا بالكأس يا حبيبي".
وأوحت لي عبارته الأخيرة بصورة مستحيلة، وكأن هذا المواطن الغلبان يقف فيها إلى جانب النادي الملكي وبيده شمبانيا الفوز، يرشها من فوق زملائه فرحا نشوان بالنصر وراء الكواليس.
وحاله تلك ذكرتني بصديقين آخرين إيطاليي الهوى لا الهوية، أحدهما كان يشجع "روما" والآخر "يوفنتوس"، وكانا على تناحر دائم في ما بينهما، ولا سيرة لهما إلا قولهما "بعنا فلانا واشترينا فلانا.. لن ينفعكم فلان لأن لدينا فلانا.. وهكذا"، شعرت من فرط الثقة التي كانا يتحدثان بها باستمرار أنهما من ملاك تلك الأندية، أو أن الفيفا تودع عندهما بنك أموالها يشتريان ويبيعان ويعقدان الصفقات يمينا وشمالا، وهما بالكاد يقدران على تأمين ثمن السجائر وأجرة المواصلات.
متى نتعامل مع اللعبة على أنها لعبة وحسب، الفائز اليوم فيها لا ندري إن كان خاسرا في الغد ولا حرج في ذلك أبدا، وأن الأمر لا يتطلب كل هذا الغضب والتوتر وشد الأعصاب وكيل الشتائم والتشفي.
وأستذكر في ذلك مقولة لصديقين من إسبانيا اليوم "أندلس الأمس"، الأول من مدريد واسمه "خايمه" والآخر من برشلونة وهو "خوان"، والتقينا وعملنا سويا على الحدود بين اليونان ومقدونيا قبل سنوات، وكان كل منهما يعمل مراسلا ميدانيا وأنا أساعدهما ما استطعت في الترجمة والبحث والتقصي عن مواضيع مثيرة بين آلاف اللاجئين العالقين على أبواب "الحلم الأوروبي" آنذاك. وكان الوقت مساء في أحد الأيام العصيبة تلك، عندما علا الهتاف والصراخ من صوب جمهرة من الناس حتى ظن الصديقان أن طارئا ما قد حدث، فاطمأنا لهدوئي وأنا أخبرهما أن الحدث ليس بالأمر الهام لي على الأقل..
"فأحدكما يا أعزائي مدريدي والآخر برشلوني، ومن غيركما يعلم أكثر من الآخرين بموعد الكلاسيكو، ومن عساه يهتم به أكثر منكما؟" فابتسما بهدوء ولم يبديا حماسا واهتماما، وعندما سألتهما عن السبب وراء التبرم والامتعاض من مجرد لعبة كلاسيكو عابرة، أجاباني بما معناه أن الحال في بلادهما يغني عن السؤال حقا.
فهل سمع مشجع برشلوني عريق أو أحد الرياليين العتيقين يوما ما عن نقابة مخصصة للمشردين في بلد النجوم والثراء والبذخ اللامعقول؟، وعن ما يتعرض له هؤلاء من أذى وتهميش وإقصاء وإهانة في الشوارع الإسبانية، ما دفع أستاذة في الفلسفة تدعى أديلا كورتينا، لتصوغ في كتاب لها عبارة "رهاب البشر" ضمن سعيها لتوصيف كيفية استهداف هذه الفئة المقهورة وتهميشها، بل ونعت أصحابها بـ"المقرفين"، ولم تزد داخلية بلادها على اعتبار الرهاب ذاك جريمة كراهية يعاقب عليها، و.. والسلام.
ولم يزد أحد الأشخاص أيضا حين سمع عن تصدر الفرنسي أنطوان غريزمان نجم أتلتيكو مدريد، قائمة أعلى عشرة لاعبين يتقاضون راتبا سنويا في الدوري الإسباني خلال الموسم الجاري، والذي يصل إلى 721 ألف يورو أسبوعيا، أن قال وهو لا يدري كيف يشبع نفسه وعياله: "والله يستحق أكثر.. فيا للظلم الذي إن يلحق.. لا يلحق إلا بالعظماء من الناس كهؤلاء".
فبأي حق تخذل العم الغاضب هذا يا صلاح.. وأنت أعظمهم!