لماذا تستهدف إسرائيل "أونروا"؟
من خلالِ بحثٍ مستفيضٍ في التوجّهات والعناوين الرئيسة لبعضِ المناهج الدراسية الإسرائيلية، نحاول معرفة كيفية عرضها هجرات اليهود إلى فلسطين منذ الحرب العالمية الأولى، والسياقات التاريخية لصراع الصهيونية مع الفلسطينيين، وكذلك كيفية تشكيل الهُويّة الإسرائيلية عبر تلك المناهج، وهدفنا من ذلك معرفة سرِّ الاستهداف الإسرائيلي لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين (أونروا).
لم نجدْ كثيرَ عناءٍ في الأمر، حيث يُمكننا الاستنتاج بسهولة أنّ إسرائيل لا تريد لأيٍّ كان، نقضَ سردية قيامها وتَشكّلها؛ وما تقوم به مدارس الوكالة في مناطق الضفة والقطاع، وفي دول اللجوء (سورية، الأردن، لبنان)، يتناقض تماماً مع السردية الإسرائيلية، وذلك هو سبب الاستهداف الشرس للوكالة المذكورة.
وفي تلك المناهج تَعرضُ إسرائيل تاريخها، ودائماً من خلال التركيز على الجوانب الأمنية، وتلك التحدّيات التي تُواجهها، و"الهجمات الإرهابية" التي تقوم بها فصائل فلسطينية ضدَّ المدنيين. وتبرز تلك المناهج "الروابط التاريخية والدينية للشعب اليهودي" بالأرض، كما يجري التركيز على مواقع دينية معينة، كحائط المبكى مثالاً لا حصراً، لِما لتلك الأماكن من رمزيةٍ لدى الكثير من اليهود داخل إسرائيل أو حول العالم.
وفيما يتعلّق بالهجرات اليهودية المتعاقبة على فلسطين، فإنّ المبرّرات التي تَسوقها تلك المناهج تُركزُ على ارتباطِ الإسرائيليين، دينياً وتاريخياً، بالأرض المقدّسة، وبالتالي من حقّهم العيش في هذه الأرض. لا بل يذهبون إلى أبعد من ذلك، فهجراتهم تلك كانت جزءاً من "عملية تحرير" من أجل إنشاء الدولة اليهودية! وفي سعيهم لإضفاء الشرعية على تلك الدولة؛ تركز مناهجهم على جملةٍ من القوانين الدولية التي أسهمت في إنشاءِ الوطنِ القومي لليهود في فلسطين، مثل وعد بلفور والقرار 181 الصادر عن الأمم المتحدة، وقرارات أخرى. ولا تنسى تلك المناهج في دعايتها، من أجل تحسين الصورة، ذكر جهود إسرائيل في تعزيز السلام والتعايش السلمي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ورفض التطرّف والعنف.
في الطرفِ المقابل؛ ثمّة سردية أخرى تنغّص على إسرائيل سرديتها، وتُناقضها بالمطلق وتكذّبها، وهي مناهج وكالة "أونروا" التي تُدرّس، سواء في المناطق الخاضعة لسيطرة حركة حماس في قطاع غزّة أو في الضفة الغربية حيث سلطة محمود عباس، وكذلك في دول اللجوء.
ثمة سردية أخرى تنغّص على إسرائيل سرديتها، وتناقضها بالمطلق وتكذّبها، وهي ما تتضمّنه مناهج الأونروا التي تُدرّس للطلبة الفلسطينيين
وفي بحثِ "مراجعة المواد الدراسية التي أنتجتها الأونروا في الأراضي الفلسطينية لعام 2022"، الذي اشتغله بعناية فائقة معهد السلام والتسامح الثقافي في التعليم المدرسي (IMPACT-se)؛ يمكن للقارئ غير المتخصّص، وببساطة معرفة كلّ توجّهات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وأسباب عدائها المستحكم ضد الوكالة.
وقُبيل استعراض ما جاء به البحث؛ من المهم جدّاً معرفة أنَّ مُعظم باحثي المنظمة هم إسرائيليون، كما أنّ مؤسّسها، ورئيسها الفخري هو البروفيسور، يوهانان مانور (Yohanan Manor) الذي كان محاضراً في العلوم السياسية بالجامعة العبرية بين عامي 1970 و1984. وفي عام 1984 كان قد بدأ بتنسيق حملة لإلغاء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يساوي الصهيونية بالعنصرية، ونجح في ذلك، كما يرد في الموقع الإلكتروني للمنظمة.
تدّعي منظمة "إمباكت سي" أنّ مهمتها مراقبة محتوى المناهج الدراسية، وأنّ هدفها يتمثل بأنْ تتلقى الأجيال الناشئة دروس السلام والتعدّدية والتسامح الديني والثقافي وفق معايير اليونيسكو ومنظمات حقوق الإنسان الأممية، بما يتعلّق بالتسامح وقبول الآخر. وفي بحثها الذي بين أيدينا، ومن خلال الأمثلة التي نعرضها، لا نجد صعوبة في اكتشافِ التحريض الذي تُمارسه ضدَّ مناهج مدارس "أونروا"، لا لسببٍ وجيه بعينه، إنّما فقط لأنّ تلك المناهج تنسف السردية الإسرائيلية برمتها.
في البحث؛ يرد العنوان الفرعي التالي: "التشجيع على العنف، الجهاد، والاستشهاد"، وفيه جاء أنّ المواد التي أنتجتها الوكالة تتضمّن نصوصاً تُمجّد شنَّ الحرب والتضحية بالحياة وبذل الدم لتحرير "الوطن"، والذي وُصف بأنّه كامل فلسطين الانتدابية. كما يقدّم البحث أمثلة كثيرة، من بينها "معركة الكرامة". وكذلك هناك تمارين "تطبيقات قواعد اللغة العربية"، يعتبرها البحث مشجّعة على العنف، وتصوّر إسرائيل بأنّها عدو. وهذه بعض الأمثلة التي استعرضها البحث:
- صحّح الخطأ الاملائي التالي: (المجاهدون صمدو أمام المحتل).
- حدّد المبتدأ والخبر في الجمل التالية، وبيّن علامة رفع كلّ منهما: (الفلسطينيون صامدون في أوطانهم. المقاومان مرابطان على ثغور الوطن).
في موضعٍ آخر؛ يستنكر البحث بيتاً من قصيدةٍ للشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود الذي استشهد في معركة "الشجرة" عام 1948: (فإمّا حياة تُسِّر الصديق/ وإمّا مماتٌ يغيظ العدا)، حيث يعتبر البحث، أنّ الشطر الثاني تشجيع على العنف، وضرب من ضروب إغاظة العدو (أي إسرائيل)، متهماً "أونروا" بإسهامها في ذلك.
وتحت عنوان فرعي آخر حمل اسم "العداء للسامية"؛ يُورد البحث الكثير من الأمثلة، وعلى الرغم من وجاهة بعضها؛ إلا أنّ تزوير التاريخ وتمثيل دور الضحية، باتا ماركةً إسرائيلية مُسجّلة. فبدلاً من الاستثمار الرخيص في ذلك العداء؛ على إسرائيل نفسها أن تسأل: لماذا هذا العداء يزداد باضطراد؟
أمثلة كثيرة يسوقها البحث، ويؤكّد أنّها معادية للسامية. هذه بعض منها على سبيل المثال وليس الحصر: تمرين لغة عربية صف تاسع: بيّن سبب الرسم الإملائي للظروف المضافة إلى (إذ) فيما يأتي:
- حين تخاذلت الأمة عن نصرة الأقصى، ساعتئذ تجرّأ اليهود على تدنيسه.
- السؤال الثاني: ضع دائرة حول الإجابة الصحيحة:
- زَرْع الكيان الصهيوني في فلسطين من نتائج الاستعمار الأوروبي (السياسية - الاقتصادية - الاجتماعية).
المناهج الدراسية تحافظ على الذاكرة والهُوية الفلسطينية، حاضرةً ومتوهجةً، وهذا ما لا يريده الاحتلال
- من الأساليب القاسية ضد الأسرى الفلسطينيين (التهديد بالقتل - اعتقال زوجات الأسرى - الاثنان معاً).
أمّا في مادة الدراسات الاجتماعية للصف التاسع، فقد وردَ أنّ إسرائيل تحاول محو التراث الفلسطيني، لا سيما من خلال الحفريات بالقرب من المسجد الأقصى. ويجري توجيه الطلبة من خلال بعض التمارين كما المثال التالي:
ضع إشارة (✓) أمام العبارة الصحيحة وإشارة (X) أمام العبارة الخطأ:
- اهتم الفلسطينيون في مواجهة سياسة الاحتلال الصهيوني في طمس التراث (....).
- قام الاحتلال الصهيوني بعدة حفريات في باب المغاربة بالخليل/ القدس (....).
وورد في البحث أنّ الإجابة عن تلك الأسئلة من خلال "طلبة الأونروا" تتطلّب منهم قبل ذلك قراءة النص التالي:
(السرقة والتزوير: يتم من خلال تهريب آلاف القطع الأثرية للخارج وبيعها كما حدث في العراق، وبقيام الاحتلال الصهيوني بسرقةِ التراث الفلسطيني وتزويره، وتسمية كثير من المواقع الأثرية بأسماء عبرية بهدف طمس الهوية الوطنية الفلسطينية).
أمّا في دروس الجغرافيا، وفي الصفِّ الخامس الابتدائي تحديداً، يستنكر البحث التحدّث عن فلسطين بكاملها دون أيّ وجود لإسرائيل، وهذا مثال من ضمن أمثلة كثيرة يتضمّنها البحث:
- عيّن على خارطة فلسطين الموجودة أمامك المدن التالية: عكا، حيفا، غزة، أريحا، القدس، نابلس، صفد، بئر السبع، الخليل، رفح.
باختصار، المناهج الدراسية المعتمدة في مدارس "أونروا"، هي السرّ والسبب الرئيس في ذلك الاستهداف الشرس الذي تمارسه إسرائيل، متذرعةً بأنّ مناهج الأونروا تنزع الشرعية عنها وتشوّهها؛ وما لم تقله إسرائيل صراحة أنّ تلك المناهج تُحافظ على الذاكرة والهُويّة الفلسطينية، حاضرةً ومتوهجةً، وهذا ما لا يريده الاحتلال.