لماذا تستمر الروح الفلسطينيّة في المقاومة؟
بعد أكثر من أحد عشر شهرًا من العدوان الصهيوني الأميركي الهمجي على قطاع غزّة، وبعد ما يقرب من سنة من الإبادة الجماعية التي يدعمها الغرب وحلفاؤه، ما زال القطاع يقاوم. ومع بداية شهر سبتمبر/ أيلول، نهض مُجمّع الشفاء الطبّي كالعنقاء من بين الرماد، وأعاد الفلسطينيون، تحت القصف والحصار الخانق، تشغيل قسم الاستقبال والطوارئ فيه، بعد تدمير المُجمّع بالكامل من قبل مجرمي الحرب الصهاينة، في مشهدٍ يمثّل رمزيّة المقاومة والصمود.
فرغم كلّ التنكيل والخسائر، ورغم عشرات الآلاف من الضحايا، ومئات الآلاف من الأحلام الضائعة، يستمرُ الغزّيون في المقاومة، ويستمر العالم في التساؤل: كيف لهم ذلك، في مواجهة مثل هذا القمع البربري والظلم المنقطع النظير، وحصار القريب قبل البعيد؟ لماذا يستمر المضطهدون في مقاومةِ مضطهديهم؟ لماذا يواصلون القتال، حتى عندما يبدو النصر حلمًا بعيد المنال، وحين يغدو الثمن باهظًا حدّ فقدان الحياة ذاتها؟ لماذا لا يَقبلون ببساطة بالقليلِ المُتاح، ويعيشون ما تبقّى لهم على هذه الأرض بهدوءٍ في ظلال الظلم؟ ولماذا يفشل المُضطهِد وأذنابه دومًا في إدراك حتميّة هزيمته؟
تغوصُ مثل هذه الأسئلة في عمق الروح الإنسانيّة، محاولةً استيعاب دوافع المضطهَدين للاستمرار في المقاومة على الرغم من جميع الصعوبات وتلاشي فرص النصر، ولفهم ذلك يجب علينا أولاً إدراك أنّ الشوق الإنساني المتأصّل للكرامة والحريّة رغبةٌ فطريّةٌ في الذات الإنسانيّة، هذه الرغبة هي التي تدفع الفلسطينيين وأحرار العالم إلى الوقوفِ في وجه مضطهديهم، بغضّ النظر عن مدى صعوبة التحدّي.
لم تعدْ المقاومة مجرّد خيار بل ضرورة أخلاقية
فلطالما حَرَمَ ظلمُ المُستعمِر والمُستعبِد كثيرًا من الأمم حول العالم من أبسط حقوقها الإنسانيّة، محوّلًا أفرادها إلى مجرّد عبيد في بلاط حكم الظالمين، سالبًا إياهم حريّتهم وكرامتهم، ومُجبرًا إياهم على الوجود دون جزءٍ حيويٍ من إنسانيّتهم، واضعًا إيّاهم أمام الخيار الصعب، إمّا تحمل المهانة أو القتال حتى النهاية، مع احتماليّةٍ مُتناهيةِ الصغر للنصر، ولكنها احتماليّة تمنح أملًا في الحريّة، وإذا علّمنا التاريخ شيئا، فهو أنّ الروح البشرية المُتقدة لا تُقهر، وغالبًا ما فضّلت هذه الروح القتال والموت بكرامةٍ على العيش في براثن السلاسل والاضطهاد، ففي قلب كلِّ فعلٍ مُقاوم يكمن السعي الدؤوب إلى العدالة والحريّة.
بالنسبة للفلسطينيين، وللعديد من المجتمعات المضطهدة حول العالم، لم تعدْ المقاومة مجرّد خيار بل ضرورة أخلاقيّة. إنّها صرختهم في وجه محاولاتِ نزع الصفة الإنسانيّة عنهم وشيطنتهم، هذا النزع الذي ستكتمل أركانه، إن خضعوا واستكانوا. إنّها قرع طبول حربهم من أجل العدالة والمطالبة بحقوقهم المسلوبة. وعلى الرغم من أنّ المقاومين قد يبدون كالأقليّة، ولربّما بدوا للعالم مجرّد أفراد في معركةٍ شخصيّةٍ في مواجهةِ المُضطَهِد، ولكنّهم في الحقيقة جزء من جهدٍ جماعي، يرى فيه المقاومون أنفسهم على اختلاف مواقعهم وأدواتهم جزءا من نضالٍ أكبر من أجل إحقاق الحق والحرية. نضال يتجاوز فيه الموقف الأخلاقي المخاوف والمصاعب الفرديّة والخسائر الآنية المهولة، مُجبرًا إيّاهم على المقاومة، ليس فقط من أجل أنفسهم، بل ومن أجل أجيالهم القادمة، مقاومة يتحد فيها من حمل السلاح، مع من حمل المبضع، مع من حمل القلم، مع المرابطين على حطامِ ما تبقّى من منازلهم، مع الضاغطين على الجراح، حالمين بغدٍ تشرق فيه شمس حريّتهم.
من المفارقات، أنّ القمع غالبًا ما يوحّد هؤلاء المضطهدين، وتاريخيًا لطالما انبثق من رحم المعاناة المشتركة أقوى الروابط التي عزّزت الهُويّة الجماعيّة والهدف المشترك. ففي فكرة المقاومة يجد الناس التضامن؛ وفي التضامن يجدون القوّة، وبهذه القوّة يسعون نحو الحريّة، متسلّحين بالوحدة والهدف المشترك، جاعلين النضال في حدِّ ذاته مصدرًا للأمل في أحلك الأوقات، حتى عندما تبدو النجاة بعيدة المنال، ففي ظلال هذا الأمل يغدو الفعل المقاوم في حدِّ ذاته شكلًا من أشكال الانتصار، ويلمع رفض الوضع الراهن كبصيصِ الضوء في آخر النفق، مُسلِّحًا المقاومين بالأمل الذي مهما بدا هشًّا، فإنّه قادرٌ على دفعهم إلى حدودٍ غير عادية في كفاحهم ضدّ القمع، حدود يصعب على البشر العاديين من أمثالنا تخيّلها.
العيش تحت القهر والقمع، لطالما ولّد أشرس أنواع المقاومة
فمقاومةُ المستضعفين لطالما بدأتْ في أحلامهم وخيالاتهم وتوقهم اللامتناهي للحريّة، فالعيش تحت القهر والقمع، لطالما ولّد أشرس أنواع المقاومة العقليّة، لأنّ قبول القهر والتعايش معه يعني قبول وضعيّة الدونية والهزيمة، وهي الوضعيّة التي لم يستطع أحرار العالم استيعابها، فرفضوها جملةً وتفصيلا، مترجمين هذا الرفض إلى فعلٍ مُقاوم مُلؤه التحدّي، حامين من خلاله أرواحهم من الانهيار وهويّتهم من الضياع. ومن ثم مضوا في سعيهم وحربهم مدركين جيّداً مكانتهم في التاريخ. وهم يرون أنّ نضالهم يساهم في إثراءِ إرثِ الإنسانيّة جمعاء، واضعًا حجر الأساس للأجيال القادمة. وحتى لو لم يعيشوا ليروا ثمار عملهم، فإنّ بطولاتهم سطّرت شهادة على عظمة الروح البشرية، مُشكِّلةً مصدر إلهام للآخرين. والاستشهاد، في هذا السياق، لم يعدّ هزيمة ولا نهاية القصة، بل بيان قوي ودائم ورمز للتحدّي الذي سيستمر لآلاف السنين بعد رحيل المحتل.
لطالما أساء المحتل وأذنابه تقدير قوّتهم، معتقدين أنّ من يحاولون إخضاعهم أقلّ استحقاقًا للحقوق والحريّات منهم، ومؤمنين خطأً أنّ القوة الغاشمة ستُمكنهم من الحفاظ على هيمنتهم إلى أجلٍ غير مسمّى. ومع ذلك، فإنّ القمع غير قابل للاستمرار بطبيعته، فهو يخلق حلقةً مفرغةً من الغضب والرغبة الشديدة في الثأر والاشتياق للحريّة، الاشتياق الذي يزداد اشتعالًا بمرور الوقت. وكلّما اشتدّت وحشيّة المحتل وقمعه، كلّما وطدّت أسس المقاومة التي تشعلها. لقد أظهر لنا التاريخ، مرارًا وتكرارًا، أنّ تمسّك الظالم بموقفه، مُعتقدًا أنّه لا يمكن المساس به، ما هو إلّا وهمٌ مريض. ففي النهاية، يزرع القمع بذور تدميره، ولا يمكن كبت توق الروح البشرية للحريّة وتقرير المصير إلى أجل غير مسمّى، وهو درس يتعلّمه كلّ ظالم في نهايةِ المطاف، ولكن غالباً بعد فوات الأوان.
فالفلسطينيون لا يقاومون لأنّهم يتوّقعون نصراً سهلاً وسريعًا، ولكنهم يقاومون لأنّ المقاومة في حدِّ ذاتها تُشكّل تأكيداً على إنسانيّتهم، معلنين بأنّ أرواحهم لا يمكن كسرها، ولا يمكن تجريدهم من كرامتهم، وأنّ رغبتهم في الحريّة والعدالة لا يمكن إخمادها.