لماذا اختفى البطل القبطي من شاشتنا؟ (5 من 5)

23 ديسمبر 2021
+ الخط -

من المفارقات أيضاً أن أكبر رصيد من الأفلام التي قدمت شخصيات قبطية كان لمخرج الروائع والعوالم الراحل حسن الإمام والذي قدم مع كاتبه المفضل محمد مصطفى سامي سلسلة من الأفلام عن راقصات قبطيات شهيرات، من أشهر هذه الأفلام (شفيقة القبطية) و(الراهبة) و(بديعة مصابني). فى هذه الأفلام وإلى جوار مشاهد الرقص الممتعة والمثيرة، اهتم حسن الإمام بتصوير شعائر الرهبنة خاصة في فيلم الراهبة الذي يروى قصة تحول راقصة لبنانية إلى راهبة، وكذلك الحال في فيلم شفيقة القبطية، والدوران لعب بطولتهما هند رستم أجمل نجمة إغراء في تاريخ مصر، وفى أفيش فيلم الراهبة تظهر وهي ترتدي ملابس عارية بينما خيالها في المرآة التي تقف أمامها يرتدى لبس الراهبة. لاقت هذه الأفلام نجاحاً كبيراً وقت عرضها، ولم يلق تقديمها لشعائر الرهبنة والطقوس المسيحية أي تحفظ جماهيري، ربما لأنها عرضت في الفترة من 1963 إلى 1965، وهي فترة لم يكن فيها أي أحداث فتنة طائفية، وكان الخطاب السياسي والإعلامي مهتماً بالتركيز على الوحدة الوطنية وأهميتها وعدم التفريق بين المسلمين والمسيحيين في الحقوق والواجبات.

حين سألت النجمة هند رستم عن تجربتها في الفيلمين الذين كان أغلب العاملين فيهما من المسلمين، قالت لي إنه لم يتوقف أحد عند مسألة الديانة لا أمام الكاميرا ولا خلفها، وقالت منفعلة: " إحنا كنا مؤمنين بإن الدين دين ربنا.. ما فيش قولة لا مسلم ولا مسيحي، والتسامح كان موجود بقوة ولا يزال، وعمرنا ما هنحس بالتفرقة لأن دي أديان سماوية معترف بها وطبقاً لفهمي للدين الإسلامي وإيماني بيه اللي ما يعترفش بالدين المسيحي يبقى كافر في ديننا، لأنه يعترض على القرآن والأنبياء المعترف بهم، وعايزة أقول إننا لما عملنا الفيلمين دول، كنا في كل فيلم بنعمل موضوع عن شخصية نسائية قصتها مثيرة وممتعة، وكمان قصة حقيقية وما كناش بنفكر إيه دينها ولا متوقفين عند ده وعشان كده الفيلمين نجحوا".

الشيخ حسين صدقي!

يقول لنا تاريخ السينما المصرية إن واقعة الفتنة الوحيدة التي أثارها فيلم تناول حياة الأقباط فيما يطلق عليه "العصر الذهبي للسينما المصرية"، كان بطلها الممثل الراحل حسين صدقي في فيلم (الشيخ حسن) والذي عرض لأول مرة عام 1954، بينما تشير بعض المصادر إلى بدء إنتاجه عام 1951، والذي يحكي عن قصة طالب أزهري يلعب بطولته حسين صدقي، يحب الفتاة القبطية لويزا التي تلعب دورها ليلى فوزي ويتزوجها من وراء أهلها، وتضغط أسرة الشيخ حسن وأسرة لويزا لوقف هذا الزواج، وعندما تمرض أم لويزا بسبب الحزن على ما فعلته ابنتها، تستعطف لويزا الشيخ حسن لكي يطلقها فيستجيب لها، ويمنعه والدها من رؤيتها ثانية، فيتزوج قريبة مسلمة له تلعب دورها هدى سلطان، وحين تموت لويزا من شدة الحزن على فراق حبيبها حسن، توصي بتسليم ابنها وجثتها لزوجها المسلم ليدفنها بمعرفته. 

ومع أن الفيلم لم يحتو على أي إساءات للدين المسيحي أو الإسلامي، ولم يتجاوز أي خطوط حمراء من أي نوع إلا أنه تعرض لمشاكل كثيرة أدت إلى تأخير عرضه، وحين تم عرضه واجه انتقادات واعتراضات من الكثيرين الذين رأوا أنه يفتح ملفاً شائكاً هو ملف الزواج بين المسلمين والأقباط والذي كان ولا يزال ملفاً شائكاً يتعامل الجمهور من الديانتين معه بحساسية، وهو ما قالت لي الفنانة القديرة بطلة الفيلم هدى سلطان إنه لم يكن في حسبان أحد من الذين صنعوا الفيلم والذين تعاملوا معه كفيلم يحكي عن قصة حب صعبة وجميلة، ومع أن حسين صدقي بطل الفيلم ومخرجه ومنتجه كان معروفاً في الوسط الفني بتدينه الشديد إلا أنه لم يقترب من أي تفاصيل دينية في الفيلم يكن أن يعتبرها أحد إساءة للدين، ولذلك لم يستوعب العاملون في الفيلم الأزمات التي أثارها قبل عرضه، وهو ما أدى كما قالت لي النجمة ليلى فوزي إلى منع عرض الفيلم نهائياً في دور العرض، لأن الجهات الرسمية على حد قوله خافت من إحداثه لمشاكل طائفية في ذلك الوقت الحساس الذي كانت البلاد فيه في حالة عدم استقرار بسبب الصراعات السياسية بين قادة ثورة يوليو. 

كان درس فيلم (الشيخ حسن) كافياً لكي يتعظ منه صناع الأفلام فيما بعد، فلا تظهر الشخصيات القبطية إلا في أدوار هامشية مثل شخصيات ماريكا ومرقص في مجموعة الأفلام الكوميدية التي أبدعها أبو السعود الإبياري، وتراوح توزيع أدوارها بين استيفان روستي واسكندر منسّى، ويحرص صناع الأفلام على أن تكون قصص الحب العابثة مع بنات الجاليات المقيمات في مصر أو الأجنبيات الوافدات، وليس مع المسيحيات المصريات، لكيلا يتكرر مصير فيلم (الشيخ حسن).

في الستينات سيتحسن وضع الشخصية القبطية قليلاً، لكنها ستستمر في خانة "صديق البطل" ولن تجد لها حضوراً لافتاً إلا في أفلام مثل (البوسطجي) الذي أخرجه حسين كمال وكتبه صبري موسى عن رواية ليحيى حقي، حيث تظهر أسرة قبطية مندمجة في نسيج القرية يحرص العمدة صلاح منصور على رعايتها، وفي فيلم (حادثة شرف) الذي أخرجه شفيق شامية عن قصة ليوسف إدريس تظهر أسرة مسيحية يرتبط شكري سرحان بصداقتها ويستمع أكثر من مرة إلى مواعظ مسيحية من رب الأسرة، وفي فيلم (أم العروسة) الذي أخرجه عاطف سالم عن رواية عبد الحميد جودة السحار يظهر مشهد ملفت لشخصية قبطية يلعب دورها إسكندر منسّى وهو يقرض صديقه المسلم عماد حمدي مبلغاً يسد به ما اختلسه من خزينة عمله. 

الملاحظ أن مخرجين كبار في هذه الفترة مثل صلاح أبو سيف وكمال الشيخ وغيرهما لم يهتموا بإظهار الشخصية القبطية في أفلامهم، كمال الشيخ مثلاً لم يظهر في أي من أفلامه شخصية قبطية، وعندما سألته عن سر ذلك قال لي إنه سعى مرة لكي يقدم فيلماً من بطولة شخصية قبطية، وذلك من خلال قصة (لقاء هناك) التي كتبها ثروت أباظة، لكن الظروف حالت دون ذلك رغم حماسه الشديد للتجربة، وفيما عدا تلك القصة لم يكن في الموضوعات التي عرضت عليه لكي يخرجها ما يدعو لوجود دين يميز الشخصيات، ومن يدري ربما لو كان كمال الشيخ قد أخرج رواية (لقاء هناك) لكان حظها معه أفضل من حظها مع المخرج أحمد ضياء الدين الذي قدمها عام 1976 في سيناريو من كتابة أحمد عبد الوهاب وبطولة نور الشريف الذي لعب دور مسلم يدرس بكلية الهندسة ويجبره أبوه على ممارسة الشعائر الدينية، مما يجعله يخفي قصة حبه لجارته إيفون مرقص التي لعبت دورها سهير رمزي، لكن قصة الحب لا تكتمل، وربما لأن الفيلم قدم قصة الحب تلك بحذر، لم يلفت إليه الانتباه وعبر في صمت دون أن يثير ضجة سلبية أو حماساً إيجابياً.

حين سألت الناقد سمير فريد عن تقييمه لتعامل السينما المصرية مع الشخصية القبطية، قال إن "السينما المصرية تعاملت بتحضر مع الشخصيات المسيحية وحتى اليهودية عندما كانت مصر متحضرة، وكان المسيحي يظهر كمواطن عادي"، ولذلك لم يكن غياب الشخصية القبطية عن الشاشة ملفتاً إلا مع بداية السبعينات، ثم تفاقمت مع انتشار الإنتاج التلفزيوني الذي غاب عنه الأقباط تماماً، وهو ما دفع في رأيه لظهور ما يسمى بالسينما القبطية التي تقدم موضوعات تتوجه لجمهور قبطي وتعرض في الكنائس والمراكز المسيحية، مما يساهم في زيادة انعزال الأقباط عن المجتمع بشكل سلبي. أما الناقد الدكتور أحمد يوسف فيرى حسبما قال لي إن سبب تضاؤل وجود الشخصيات القبطية في السينما أبعد من أن يكون مرتبطاً بقرار سياسي، وأنه مرتبط بمشاكل في بنية التفكير السينمائي المصري، لأن معظم حبكات السينما المصرية في رأيه لا تحمل ملامح خاصة للشخصية لا في الدين ولا المهنة ولا العمر، بل تحمل مجرد ملامح عامة يسهل دائما إعادتها خصوصاً حين تنجح تجارياً، بالإضافة إلى اعتمادها على النجم الذى يضع في تفكيره دائما التوجه إلى الجمهور الأكبر عدداً، وبالتالي لن تظهر شخصيات قبطية على الشاشة في ظل سيطرة هذه العقلية على الإنتاج السينمائي المصري.

...

كان هذا ما كتبته ونشرته في عام 1999، هل اختلف شيء أو تغير شيء بعد كل هذه السنين؟ سأترك لك الإجابة.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.