لكلّ عائلة "ودادها"
الشخصية الأكثر تأثيراً في العائلة ليست بالضرورة الأكثر ثراءً. فـ"وداد" هي التي تحتلّ مركز اهتمام عائلتنا برمّتها، مع أنّها، على حدّ زعمها على الأقلّ، شهيدة الفقر والحرمان. وكانت طوال عمرها المليء بالمغامرات الجريئة تشجّع الجميع على التبرّع لإتمام احتياجاتها التي لا تنتهي.
تتمتّع وداد بقدرة خارقة على التلاعب بمشاعر الآخرين، وهي فقيهة في أمور الدين، والأخلاق العامة، والأسواق والمناسبات، ومستعدّة للانخراط في أيّ فعالية مهما كانت مرهقة. وهذا ما أكسبها هالة الشهامة التي تمتّعت بها فترات طويلة من عمرها، وما أفضى لاستثنائها من النقد حين تبدأ أفعالها المشينة. لديها ملفات سرّية عن كلّ أفراد العائلة، أودعت فيها زلاتهم، وكانت على استعداد تام لكشفها للآخرين إذا تطلّب الأمر.
تزوجت متأخرة نسبياً بالنسبة لبنات جيلها، وكانت قد أنهت دراستها الجامعية، والشاب الذي عرض عليها الزواج كان عاطلاً ومعدماً، ولا يحمل مؤهلاً علمياً، ولا حرفة، ولا تدعمه عائلة متماسكة ولا سمعة طيبة. على أيّ حال تمّ الزواج وتمكنت من إقحامه قسراً في عائلتها، ولم يجد البقية أنفسهم إلّا مضطرين لدعم مشروعها الفاشل. وصار الزوج مثقفاً فجأة، ومطّلعاً على كلّ أمور الدين والدنيا، مثل زوجته الحبيبة.
وابتدأت رواية لن تنتهي، صراع بين طلباتها التي ازدادت بمرور الزمن، وبين إمكانيات الآخرين التي مثلت بالنسبة لها مصدر دخلها الذي لا ينضب. مركز أخيها الذي أمّن عملاً لزوجها العاطل، مركز زوج أختها الذي أمّن الدعم اللازم لخدمته العسكرية الإلزامية، الدفعات المالية من أخيها المغترب، والتي أمّنت لها الاستيلاء على ميراثه من بيت العائلة وتثبيت ملكيتها لبيت الزوجية، الدفعات المالية المختلفة من الأخ الأصغر، لأنه كان كريماً ويعتقد أنّ مستقبل أولادها في خطر، متجاهلاً مستقبل أولاده، أختها الأرملة الثريّة التي كان عليها واجب تسديد الديون التي تتوّرط فيها وتمويل مناسباتها... وكلّ انتصار تحقّقه يصبح بعد مرور فترة زمنية محدّدة انتصاراً لها أو لزوجها، أي إنه ليس هناك قائمة للعرفان بالجميل في ملفاتها. المهم أنّ بيدها قائمة السيئات التي لا تمحوها الحسنات.
ووداد ذاكرتها انتقائية، فهي تُسقط من قائمتها الأسماء التي لم يعد بالإمكان استنزافها، فعميد العائلة انتهى أمره لأنّه تقاعد من منصبه، ولم يعد لديه معارف متنفذون. والأخ الذي أفلس اتضح أنه أساء إلى زوجها، لذلك لم تعد تستطيع التواصل معه أو مع أسرته إكراماً لزوجها وأولادها. وفي الوقت نفسه، وإذا لاحظت أي بريق جديد في العائلة حول أيّ اسم، بسبب مركز أو صفقة مالية أو نسب، فإنها سرعان ما تتخذ ترتيبات لإعادة الوصال بكلّ زخم.
في كلّ عائلة تعيش وداد صغيرة أو كبيرة، ككائن طفيلي يتحيّن الفرص لامتصاص الطاقات المادية والروحية لمن حوله
تستخدم وداد علاقتها بزوجها في كلّ مرّة تضطر فيها إلى استجداء عطف الآخرين، ولم تتعب من إعادة تشكيل مواقفها المتكرّرة معه. وفي الحقيقة، إنّ قضيتها تُعتبر حالة غير نادرة من العلاقات الزوجية السامّة، زوج جاحد وزوجة متسامحة أعطت كلّ ما تملك لإنجاح هذا الزواج. ولكن مهلاً، هناك تفاصيل لا يعلمها أحد عن هذه العلاقة التي تبدو من الخارج واضحة. هناك شخصية وداد التي لا بد أنّها تلاعبت بعقل زوجها وطغت على صفاته الأساسية. ولا يمكن أن تسمّي ما تفعله طمعاً، ففي كلّ مرّة تكون طلباتها محدّدة، ويمكن تحقيقها، يخرج الطرفان سعيدين. الطرفان هما الزوج والزوجة بالطبع، ويدفع الثمن أحدنا، مالاً أو وقتاً أو خدمة كان يجب أن تقدّم لمن يستحقّها فعلاً. وبمرور الزمن اكتفى الزوج بلعب دور الشرير الذي يضطرها في كلّ مرة إلى استجداء إحسان الآخرين، وتغيّرت صورته الأولية وصار يظهر بمظهر المتعفّف الذي ظلمته هذه الأسرة. واحتاج إلى تقارير طبية تثبت أنه أصيب بأمراض نفسية خطيرة بسبب تعرّضه للتنمّر، وانتهى به الأمر إلى افتعال حرب على كلّ من يمتّ لوداد بصلة عائلية، مستغلّاً المناسبات ليردّ بقسوة على مواقف قديمة لم يعد أحد يذكرها.
تعيش وداد في منزلها الخاص الذي لا يزورها فيه أحد لسبب أو لآخر، الزوج الغاضب، الإمكانيات المحدودة، البرد، الحر، المرض... المهم أنّ دخوله محرّم على أفراد العائلة، ولكنها في المقابل تُدعى إلى كلّ البيوت بحذر، خوفاً من نوبات غضبها المرعبة.
في كلّ عائلة تعيش وداد صغيرة أو كبيرة، ككائن طفيلي يتحيّن الفرص لامتصاص الطاقات المادية والروحية لمن حوله، ويتقبّلها الجميع مثل شرّ لا بدّ منه. وقد تكون باحثة أبدية عن الحب، وقد يكون من حولها جاحدين، لكنّها نجحت باستنزاف التعاطف حتى لم تترك مكاناً إلا للخوف من مواجهتها، وتوقع الأسوأ منها.
وداد على الأغلب لا تحبّ إلا نفسها.