لعنة مكتبات الإسكندرية (2/ 2)
ظهرت مكتبات جديدة في مدينة الإسكندرية، مثل: "بيت الكتب"، "ميكروفون"، "عصير الكتب"، "مكتبة المعارف الحديثة" لكنها غير كافية كمًا وكيفًا. وتلك المكتبات لها جمهورها الخاص، ممن يستطيع أن يدفع أثمان الكتب التي تنشرها دور النشر الخاصة. لنعود إلى المكتبات العامة، فقد كبرت الآن ودخلت المدرسة الثانوية. هناك مكتبة أكبر وأثرى في المدرسة، وأمينة المكتبة أقل إخافة، أو أنّي قد أصبحت أكثر جرأة. وهنا، كنت أقضي كثير من أوقات فراغي في المدرسة، في مكتبتها. لكن بعد دخولي جامعة الإسكندرية، والتي كان أول من ترأسها هو طه حسين، فوجئت بعدم وجود مكتبة في الكلية!
بالعودة إلى مكتبة الإسكندرية، الآن بإمكاني أيضًا دخول المكتبة الكبرى، والمكتبة الكبرى ذات منظر ساحر إذا ما نظرت إليها من أعلى، سترى ماكينات مطبعة بولاق، وتمثال لطه حسين، وجزءًا من كسوة الكعبة، ولوحات تصوّر علماء المسلمين. كما ستجد فيها الكثير من الشباب يمسكون كتبًا أو أوراقًا أو حواسيب محمولة. لكنك إذا ما دخلتها كقارئ فستجد أنها أقرب إلى المقهى منها إلى المكتبة. لا أعرف أن كان ذلك من سوء حظي أم أنّ تلك من طبيعة المكتبة.
كانت زياراتي الأولى مقبولة، تجلب كتابًا وتجلس في هدوء، لا تجد ما يقاطعك حتى وقت إغلاق المكتبة. ومع تكرار زياراتي، وجدت فيها زحفًا من طلاب الجامعة التي يقع المجمع النظري فيها ملاصقًا للمكتبة، فيعاملها الكثيرون منهم معاملة المقهى، فيأتون في جماعات للحديث والمسامرة والمذاكرة، فلا تجد هدوء المكتبات، بل ضجيج المقاهي، فقلّت زيارتي لها، وإن لم تنقطع.
في إحدى زيارتي للمكتبة كانت المكتبة مليئة كالعادة بطلاب الجامعة وغيرهم ممن يستعملون شبكة الإنترنت الموجودة في المكتبة لتحميل الألعاب والأفلام وغيرها. فتناولت كتابي وجلست في أقرب مكان، وبعد حوالي نصف ساعة، جاء أحد أفراد الأمن، وعلا صوته على صخب المكان وظلّ يهدّد ويتوّعد رواد المكتبة، إن لم يكفوا عن تلك الضجة. دهشت حقًا، لأن أرى ذلك المنظر في أهم وأكبر مكتبة في الإسكندرية، فقد كان أسلوبه أقرب إلى البلطجة منه إلى حفظ النظام.
بعد دخولي جامعة الإسكندرية، والتي كان أول من ترأسها هو طه حسين، فوجئت بعدم وجود مكتبة في الكلية!
وأذكر أنّ آخر زياراتي، كانت الأسوأ، فعلى سبيل المثال كنت أجلس مرّة في المكتبة بعد انتشار وباء كوفيد، وكانت هادئة بسبب الإجراءات المتبعة، فلم تكن مناسبة لأن تكون مقهى، وحلّ عنها أهل السمر. وفي ذلك الهدوء، سمعت صوت تلفاز، فنظرت حولي ولم أجد مصدر الصوت. فنظرت في الطابق السفلي، فإذا به أحد العمال المسؤولين عن ترتيب الكتب، يمسك بهاتفه ويشاهد فيلمًا! ليس عندي مشكلة أن يشاهد ما يشاء، إن لم يكن لديه ما يعمل، لكن ألا يوجد سماعات للرأس أو ما شابه. والغريب أنّي ذهبت ثلاثة أيام متواصلة، فإذا به يكرّر نفس الفعل كلّ يوم!
رغم أنّ مكتبة الإسكندرية لا تزال تحافظ على شيء من رونقها، ورغم الإصلاحات الملحوظة التي طرأت عليها، فيبدو أنها إن استمرت حالتها على هذا المنوال فسيكون مآلها مآل المكتبة القديمة، بل أسوأ، حيث ستكون موجودة شكلًا، وقد احترقت من الداخل.
لعل أفضل مكان للقراءة وجدته في الإسكندرية، كان مركزًا يدعى "6 باب شرق"، وذلك هو عنوانه أيضًا. يقع ذلك المركز في طابق تحت الأرض وبه مكتبة صغيرة، وأهم ما يميّزها هو أنّ الإصدارات الموجودة بها حديثة، ولا تسمع فيه صوت إلا صوت حفيف الأشجار وعبور السيارات، تلك البيئة المثلى للقراءة. ولعل ذلك يرجع إلى موقعه، فهو يقع في الحي اللاتيني الشهير بالإسكندرية، ولكن لسوء حظي أغلق هذا المركز مكتبته أمام الروّاد، واكتفى بأنشطته الثقافية والفنية.
إذا ما سرت خطوات قليلة من ذلك المركز ستجد نفسك في شارع فؤاد، وهو أقدم الشوارع السكندرية وأرقاها. كان يعرف قديمًا بالشارع الكانوبي. في ذلك الشارع يقع مركز الحرية للإبداع، كان يعرف قديمًا بكلوب محمد علي، ويروى أن ثاني عرض سينمائي في التاريخ كان في ذلك القصر. رغم أني كنت كثير التردّد عليه لما فيه من نشاط ثقافي وفني، فقد علمت بالصدفة أنّ فيه مكتبة، وذلك عندما أعلن المركز عن حاجته لمتطوّعين، ووجدت أنّ المكتبة من المرافق التي بحاجة إلى متطوّعين. وفي أوّل لقاء للمتطوّعين في المكتبة، كان هناك رجل وامرأة، هما المسؤولان عن تلك المكتبة. كان لقاء غريبًا بحق، لأنه كان يظهر عليهم علامات الاضطراب، فهم لا يعرفون ماذا يعملون هنا ولا لماذا نحن آتون. فطلبوا منا ألا نقلق لأنه لا يوجد عمل كثير في المكتبة، ولا يوجد من يزورها في الغالب، وكان اللقاء في معظمه مزاحًا فجًا، وانتهى بأن تمّ تحديد المواعيد التي تناسب المتطوّعين. وفي أوّل يوم للتطوّع، طُلب منّا أن نجرد المكتبة لاحتمال أن يأتي مراقبون من العاصمة!
في الوقت الذي يفزع وينشغل العالم بعواقب الذكاء الاصطناعي، تجد بعض المكتبات لا تزال تحتفظ بدفاتر عتيقة لجرد الكتب
في الوقت الذي يفزع وينشغل العالم بعواقب الذكاء الاصطناعي، تجد أن تلك المكتبة تحتفظ بدفاتر عتيقة لجرد الكتب، وعلمت أنّ تلك الدفاتر تنقل بشكل دوري بخط اليد لأسباب تتعلّق بالجرد. وبدأت عملية الجرد بأن أمسكت بإحدى تلك الدفاتر الضخمة، وعملت على المقارنة بين البيانات المكتوبة في الدفاتر وبين الواقع. ورغم أنّي لم أتجاوز إلا بضع صفحات معدودة، وجدت الكثير من المشاكل، فهذا كتاب موجود اسمه في الدفاتر، وغير موجود على الرفوف، وذلك موجود بالرفوف وليس موجودا بالدفاتر، وذلك اسمه به خطأ، وذاك مسجل أنّ هناك نسختين بينما هناك واحدة على الرف، وكنت أرجع في كل مشكلة إلى الموظفة المسؤولة، ولم أر الموظف كثيرًا وكان ذلك موضع تندّر في أول لقاء لنا في المكتبة! المهم أنّي بالرجوع إلى الموظفة، كان ردّها على كلّ مشكلة بلا معنى، على شاكلة: "حسنًا، لست أدري، قد تجد هذا الكتاب لاحقًا، إلخ" ولم يكن يحدث شيء، ولذا لم أفهم الهدف من ذلك الجرد.
على العموم، تلك مسائل بيروقراطية لا معنى لها، فالمكتبة موجودة والرفوف متاحة للجمهور. لكن المشكلة في تلك المكتبة، هي أنّ موظفيها لا يعلمون الهدف من وظيفتهم، ففي المرات اللاحقة التي ذهبت فيه، وجدت أنهم لا يهتمون بتوفير بيئة صالحة للقراءة. وبالرغم من أنّ مكان المكتبة مميّز وتصميمها الداخلي على الطراز الكلاسيكي الجميل، فأوّل ضيف جاءنا، كان شيخًا فيه شيء من الوقار، وبينما كنت عالقًا في عملية الجرد، وجدت الموّظفة وقد صرخت فيه بأنّ المكتبة بها جرد! فأخذ الرجل الكتاب وجلس بشكل قلق. لعل جزءًا من المشكلة يكمن في أنّ هناك مكتبًا في وسط المكتبة للموظف المسؤول، وهناك اثنان من المسؤولين، أحدهما لا يأتي، وحوالي 4 أو 5 من المتطوعين بلا عمل في الغالب، ولذا لا بدّ من الحديث والسمر.
إنّ الإهمال الذي تقع فيه الإسكندرية، العاصمة الثانية لمصر، يدل بالتأكيد على أنّ الوضع في باقي المناطق كارثي. تلك المدينة التي يزيد عدد سكانها على خمسة ملايين مواطن، يوجد فيها عدد من المكتبات لا يتناسب أبدًا مع عدد سكان المدينة، ولا مع مكانتها الديموغرافية والتاريخية.
رحم الله المكتبة القديمة والقرّاء الجدد.