لعنة مكتبات الإسكندرية (1/ 2)

15 يونيو 2023
+ الخط -

كانت الإسكندرية في العصور الغابرة منارة للعلم والمعرفة، ولعلّ مكتبتها القديمة من أشهر المكتبات في ذلك العصر والعصور اللاحقة. ويبدو
أنّ تدمير تلك المكتبة، كانت له عواقب وخيمة على تلك المدينة. ومن المؤكد أنه بعدما تمّ تدمير المكتبة قد ماجت روحها، وقالت: "ما لكم يا بني آدم، تنقضون ما غزلتم وتقوّضون ما بيّنتم وتنسون ما عرفتم، أتمحون زبدة ما فضلكم به الله على كثير من خلقه، والله لا تقومن بعدي من مكتبة، ولا يباركن الله في قارئ من نسل أولئك القوم". 

هذا هو سبب اللعنة التي حلّت على المكتبات السكندرية، وقد شهدت جزءًا منها. عشت طوال حياتي في الإسكندرية، ولم أغب عنها فترة متصلة تزيد عن الأسبوع. ولدت في بداية الألفية، ومنذ وعيت على الدنيا ولي شغف بالقراءة، ولذلك أتتبع مواضع الكتاب في تلك المدينة العتيقة التي لا تزال اللعنة تلاحقها وتحلّ فيها.

ولدت مكتبة الإسكندرية الجديدة في عام 2002، وكنت قد ولدت قبلها بعام تقريبا. وأذكر أنّ والدتي بارك الله فيها، كانت تصحبني إلى مكتبة الإسكندرية كثيرًا في طفولتي. وإلى جانب المكتبات الموجودة فيها، هناك متاحف كثيرة ومعارض، وبرامج للأطفال، والمراهقين، والشباب. كنت إلى جانب إعجابي بتلك النشاطات، أحبّ كثيرًا المكتبة، وكان سني حينها لا يؤهلني إلا لدخول مكتبة الطفل (وتلك المكتبة ساحرة بالتأكيد لأيّ طفل)، إذ تجد فيها كراسي ومقاعد ملوّنة، مختلفة الأشكال والأحجام، وفيها كتب مبهجة بحق. أذكر حتى الآن كتابا صغيرا يتحدث عن الحيوانات، فضلًا عن جماله، كانت فيه قطعة من جلد كلّ حيوان حتى تحسّ بملمس كلّ حيوان. كان ذلك، ولا يزال، أشبه بالمعجزة بالنسبة لي. إلى جانب أنك تجد أعداداً كثيرة من مجلات الأطفال بالطبع.

مرّت السنوات وصرت في المرحلة الإعدادية، وأصبح بإمكاني الذهاب إلى المكتبة بمفردي. وكانت تلك مرحلة التحوّل من كتب الأطفال إلى كتب المراهقة. ولا زلت أذكر أوّل كتاب اشتريته، وكان رواية لأغاثا كريستي بعنوان "موت على النيل" على ما أذكر. كنت قد قرأت لها في مكتبة الإسكندرية، لكن هذه المرّة كانت في مكتبة النشء، وهي مخصّصة للمراهقين. كانت مكتبة صغيرة في حجم غرفة كبيرة، ولكنها كانت خلابة، وكنت أحبّ الموضع المخصّص للأدب الإنكليزي، وأتردّد عليه كثيرًا. لكن في تلك المكتبة، واجهت أول مشكلة مع المكتبات، وهي أنه بالرغم من أنها مكتبة، فنادرًا ما تجد من يقرأ فيها، رغم وجود مرتادين لها. كانت تحوي بعض المناضد المستديرة ويجتمع حولها ثمانية مقاعد على ما أذكر، فكنت أذهب إلى موضع الأدب الإنكليزي وأختار ما يعجبني من الكتب. آخذ كتابي وأتجه إلى أقرب منضدة فارغة، وما هي إلا بضع دقائق حتى تجد نفسك محاطًا بمجموعة من أقرانك، وهذا رائع، لكن المشكلة أنّ لا أحد منهم يحمل كتابًا أو ورقة حتى. لكنهم يتحادثون ويتسامرون. 

في أحد الأيام، قابلت أحد أصدقائي من المدرسة الابتدائية. وبعد السلام والتحية، سألني:

-بتعمل إيه هنا؟

-بقرا.

فابتسم ابتسامة حكيمة، لأنه عرف أنّ من أمامه غرّا، بريئا!، لم يعرف بعد أن المكتبات ليست للقراءة، والمدارس ليست للتعليم، وأنّ الكتاب قد مات ونحن من قتلناه. فرددت عليه بسؤال أيضًا، وقد اعتراني شيء من الدهشة:

-وأنت بتعمل إيه هنا؟

-بشقط.

والشقط في الدارجة المصرية هو مواعدة الفتيات. فابتسمت، وربما ضحكت وظننته يمزح. لكني وجدته صادقًا فيما يقول، فذلك كان هو النشاط الرئيسي في المكتبة، "الشقط". وكان القائمون على المكتبة يلحظون ذلك الأمر فيذهبون إلى الفتية والفتيات ويطلبون منهم أن يحاولوا أن يعطوا للقراءة فرصة أخرى، لكن ذلك لم يكن له أيّ صدى عندهم. ولمّا لم أكن أمارس "الشقط"، خجلاً لا تعففاً، فلم أجد ذلك المكان ملائما لي. لكن ميزة مكتبة النشء، أنها تتيح الاستعارة للمشتركين فيها، وهذا غير متاح في المكتبة الرئيسية، وكان ذلك حلًا مثاليًا لتلك المشكلة. لم أكن أعرف مكتبات عامة غيرها في ذلك السن إلا مكتبة المدرسة، وكان ذلك مكانًا مخيفًا بالنسبة لي، وكان السبب في ذلك هو أمينة المكتبة، قد كانت سيدة في الأربعين من عمرها تقريباً، ذات نظرات حادة وصراخ عال. فلم يكن عندي سبيل إلا أن أشتري الكتب من المكتبات الحكومية والخاصة، وهذا حديث ذو شجون.

كنت كثير التردّد على مكتبة "الهيئة العامة المصرية للكتاب"، وهي مكتبة حكومية، تجد فيها كثيرًا من الروائع القديمة والحديثة بأسعار تناسب جيوب الطلاب والعامة. أغلقت تلك المكتبة منذ عام تقريبًا، وكانت المنفذ الوحيد للكثير من الإصدارات الحكومية، حسنًا ما زالت هناك مكتبات خاصة. كانت الإسكندرية حينها لا تزال متماسكة نوعاً ما، وكان هناك أحد فروع مكتبات ألف في منطقة كفر عبده، وهي من أرقى مناطق الإسكندرية، عبارة عن "فيلا" من ثلاثة طوابق بها حديقة جميلة. في الطابق الأخير منها، يُقام ناد نشط للكتاب، ولكن أصابتها اللعنة أيضًا وأغلقت منذ سنوات، هي وباقي فروعها في الإسكندرية. وانتقل نادي الكتاب ذلك بعدها بعدّة سنوات إلى مكتبة "الشبكة العربية للأبحاث والنشر" الشهيرة، وكانت تقع في منطقة جميلة أيضًا من المدينة، وهي منطقة سابا ب، وكانت أيضًا مكانًا للكثير من الندوات والنشاطات الثقافية. وبما أنك وصلت إلى هذا الموضع من القراءة، فقد توقعت مصيرها، صحيح؟ لقد أغلقت.

وللحديث تتمة.

مؤمن محمود رمضان أحمد
مؤمن محمود رمضان أحمد
كاتب ومترجم مصري. يعرّف عن نفسه بالقول "لم أعرف نفسي بعد".