لا يمكن تجاهل فرحة السوريين
أحمد الصباهي
منذ انطلاق عملية "ردع العدوان" تبادر إلى ذهني الكثير من الأسئلة التي لا إجابة عنها، من موّل هذه "الجماعات المسلحة" (المتداول دائمًا أنها تركيا)، وكيف أعدّت نفسها طوال هذه المدة، وكيف استطاعت بعدة أيام أن تحقق نجاحات بوصولها إلى حلب والسيطرة عليها، وكيف تقهقر الجيش السوري أمامهم، بل وفرّ العديد منهم في كل الاتجاهات، وصولًا إلى فرار ألفين إلى العراق، ثم توالت الاختراقات وصولًا إلى سقوط نظام بشار الأسد، الذي كان حلم الكثيرين من أبناء الشعب السوري، وحقيقةً بعيدة المنال كما ينظر إليها "محور المقاومة" الذي قاتل في سورية لما اعتبره مخططًا ومؤامرةً لإسقاط دور سورية في مواجهة المشروع الأميركي الإسرائيلي، حيث تمثل سورية واسطة عقد محور المقاومة.
أؤمن كما يؤمن الكثيرون أنّ الحل الأوحد مع الاحتلال الإسرائيلي هو المقاومة، وأنّ المقاومة الفلسطينية بحاجة إلى كل من يمدّ لها يد العون، من أحزاب ودول، وأنها معنية بإنشاء تحالفات تسندها سياسيًّا وماليًّا وعسكريًّا، وسورية كانت إحدى تلك الدول، التي ساندت المقاومة اللبنانية والفلسطينية، وقدّمت لها يد العون على عهدي حافظ وبشار الأسد.
لكن بلا شك، سورية في الداخل في عهدي حافظ وبشار الأسد، لم تكن كما في الخارج، كذلك كان عهد الرئيس جمال عبد الناصر، هو ألمعي في عناوين الوحدة العربية، لكن في الداخل كانت العناوين مختلفة.
وهنا يُطرح السؤال، هل تأييد المقاومة اللبنانية والفلسطينية، يعطي الحق لرئيس أي دولة، أن يمارس كل أنواع التحكّم والسيطرة، في الحياة السياسية الداخلية بكل عناوينها، الجواب البديهي والطبيعي لا. لكن هل هذا ينطبق على سورية في عهد بشار الأسد؟
ربما الجواب بوجهة نظري فيه الكثير من التعقيدات، لسبب وحيد في ذلك الوقت، أنّ ما عايشناه في الربيع العربي، أسقط ما اعتبرناه أنظمةً استبداديةً ديكتاتوريةً، حكمتنا على مدار عقود، تركت الشعوب والمجتمعات فقيرةً متخلفةً مرتهنةً بسياسييها ومثقفيها ورجال أعمالها للسلطة السياسية الحاكمة، فضلًا عن ارتهانها للغرب، وكان أملنا بالربيع العربي كبيرًا للتغيير، خصوصًا أنّ فلسطين كانت أحد العناوين الأساسية من شعارات "حرية عدالة اجتماعية"، وإذ نصاب بمقتل الديمقراطية في مصر عبر إسقاط الرئيس المنتخب "محمد مرسي"، وسحق حزب النهضة في تونس، وظهور "قيس سعيد" وتعليق بل وإنهاء الدستور، وضياع ليبيا، كل هذا بتدخّلات غربية وعربية، لم تقبل باستقرار سلطة إسلامية، أو تتبع حزبًا أو توجهًا إسلاميًّا، عبر انتخابات ديمقراطية، مما يذكّرنا كثيرًا بانتخابات المجلس التشريعي الذي فازت فيه حركة حماس، وحاربها العالم، وفي مقدّمتهم السلطة الفلسطينية، وإذا كان مآل الربيع العربي هو أنظمة ديكتاتورية، تخلفها أنظمة ديكتاتورية أخرى، فنظام الأسد إذًا ليس استثناءً، فما جدوى التغيير؟
ما الذي يختلف في سورية؟
منذ انطلاق الربيع العربي عام 2011، ظننت أنّ سورية ستكون بعيدة المنال، خصوصًا أنّ سورية تحكمها سلطة قوية، والمجتمع السوري وإن كان يعاني من انعدام الحياة السياسية، وتحكمه طبقة معينة بالسلطة والمال، إلا أنّه كان لديه اكتفاء ذاتي ضمن توجهات الدولة السورية.
ابتدأت الثورة في سورية، فابتدأت المخاوف، ماذا لو سقط النظام؟ ومن سيحكم سورية؟ وأين ستصبح توجهات سورية؟ وإذا سقط النظام هل ستحاصر المقاومة في لبنان، وهل سينتهي وجود المقاومة الفلسطينية في سورية؟
ومن غير الدخول في الكثير من التفاصيل، أذكر كثيرًا أني كنت من المؤيدين للنظام في سورية، تحت عنوان أوحد، "سقوط النظام في سورية يعني خسارة إحدى جبهات المساندة للمقاومة"، خصوصًا أنّ بعض تيارات المعارضة بشقّيها السياسي، والعسكري تلقّت تمويلًا عربيًّا وغربيًّا تحت عناوين مناهضة "لمحور المقاومة" مما زاد من التخوّف من مشاريع تلك الدول في سورية، وظهرت الكثير من التصريحات من بعض المعارضين السوريين تؤيد توجهات التطبيع بين سورية والكيان الإسرائيلي، واختفت من أمامي، كل العناوين التي أيّدناها في قضايا داخلية في سقوط أنظمة عربية، فلم نشاهدها في سورية، لم أكن بأي شكل من الأشكال من المؤيدين للجرائم التي وقعت في سورية، فقد كان ما يجري يندى له الجبين.
اختلفت مع كثيرين على منصات التواصل الاجتماعي حول سورية، وكنت مقتنعًا بأنّ ما يجري في سورية ليس بريئًا، خصوصًا أنه طُرحت مبادرات للحوار، "لكنه حوار الطرشان"، واضطرّت المقاومة اللبنانية من وجهة نظري، التدخّل في سورية، ثم إيران، وأخيرًا روسيا تحقيقًا لمصالح خاصة، وأضحت النتيجة كما قال لي صديق زار سورية قبيل عدة أشهر من سقوط النظام، أنّ الموظفين في الدولة السورية يشعرون بأنهم انتصروا على العالم، وهي عيّنة صغيرة ربما بما كان يشعر به نظام الأسد.
لم ينجح الحوار على مدار سنوات طويلة، وفشل فشلًا ذريعًا، ومن الواضح أنّ نظام الأسد لم يكن يستشعر أنه مضطر لأن يعطي شيئًا للمعارضة، فالمقاومة اللبنانية بظهره، وكذلك إيران وروسيا، لكن من قال إنّ المشهد لن يتبدّل، لقد تغيّرت ظروف حزب الله، وإيران، وروسيا، ونامت أعين النظام عما يجري في حلب، وتجاهل دعوات أردوغان، ليدفع الثمن "محور المقاومة" الذي ضاعت إنجازاته بأسابيع، بعد سنوات من القتال في سورية، قدّمت خلاله المقاومة اللبنانية الكثير من أبنائها تحت هذا العنوان، لكن الأسد اختار نفسه وزمرته الحاكمة على حساب الآخرين، وترك سورية هاربًا ليلقى لجوءًا إنسانيًّا وليس سياسيًّا، وهذا فيه معانٍ كثيرة، من بوتين، الذي لن يحلم حتى برؤيته أو السلام عليه.
فرحة السوريين
بعد سقوط النظام في سورية، في اليوم التالي، كنت جالسًا مساءً في القهوة، تجري في رأسي أسئلة كثيرة عن "أحمد الشرع"، وكيف تحوّل الخطاب نحوه من الجماعات الإرهابية، إلى الجماعات المسلحة، إلى المعارضة المسلحة، في الكثير من القنوات التي تتبع محور المقاومة. هل طُويت صفحة الأسد ونظامه إلى غير رجعة؟ يبدو كذلك، ماذا في اليوم التالي في سورية، وأين ستكون توجهاتها من محور المقاومة؟
قاطع تساؤلاتي أحد الأصدقاء وهو يحمل في يده علبة حلوى، اشتراها خصيصى للاحتفال بسقوط النظام، بدأ يقدّم الحلوى مبتسمًا، والجميع يهنّئونه، ووصل إليّ وهو يعلم رأيي في السابق في سورية من نظام الأسد، وقدّم الحلوى، لم أجد بدًا سوى أن أتلقّف هذه الحلوى، ولم أستطع تجاهل فرحته، وخرجت من فمي كلمة "مبروووك"، فابتسم، وغادر، لم يكن مضيفي سوريًا بل هو صديق لبناني، لديّ عدة أصدقاء سوريين، تبادلوا معي التهاني، ولم أستطع أن أتجاهل فرحتهم، فما في قلوبهم وما عانوه الكثير. وخلال ذلك، في رأسي تدور أسئلة صعبة، لقد خسرنا الأمين العام لحزب الله "السيد حسن"، والمقاومة في لبنان أضحت في موقف صعب بعد المعركة، والمقاومة الباسلة في غزة تقاتل، وقد خسرنا القادة إسماعيل هنية والشيخ صالح العاروري ويحيى السنوار، وغيرهم من القادة ومن أبناء الشعب الفلسطيني وقُسّمت غزة، وإيران تحت تهديد كبير ينتظرها، فهل سنتحمّل ما نعتبره واسطة عقد المقاومة في سورية.
لا نستطيع تجاهل ابتسامة السوريين، ولا نستطيع تجاهل معاناتهم، فمن يشاهد ما بثّته المعارضة السورية من مشاهد السجون وتحرير النساء، والفتيات، والأطفال، والشباب، وبالأخص سجن صيدنايا الذي إلى الآن في ظل كتابة هذه السطور يجري العمل على إخراج السجناء منه، يدعونا للقول، لا نستطيع أيضًا تجاهل فرحتهم.
ما ستفعله المعارضة السورية، هو رهن بقدرتها على استقرار الأوضاع، فأداؤها إلى الآن جيد، ومن الواضح أنّ تغيّرًا في التفكير قد حلّ محل التوجهات المتشددة السابقة، فهل سينجحون؟ وكيف سيبني السوريون دولتهم؟ وضمن أي توجهات؟ وما هو موقف الدول العربية، والغربية منها؟ وهل سيتركون السوريين وشأنهم؟ هذا رهن بالأيام المقبلة، وربما ما ستحمله من مفاجآت.