لا بد من تحطيم تمثال المعري

19 مارس 2020
+ الخط -
على الرغم من وجود السيدة المحترمة أم الجود معنا في السهرة، قال أبو الجود إنه نادم على زواجه منها. وأوضح أنّ الندم له مراتب، أقصاها مرتبة الشخص الذي يعضّ الحذاء من شدة الندم، وهو، أي أبو الجود، واصل إلى هذه المرتبة، بل وأكثر منها.

قال كمال محاولاً تلطيف الجو: بتقصد إنك نادم لأنك تزوجت بشكل عام. صح؟

فرد عليه أبو الجود: لأ، أنا ندمان لأني تزوجت هاي المرأة بشكل خاص! كان ممكن أتزوج امرأة غيرها وتكون حياتي أحسن من هيك.

قال أبو مراد: والله هاي شجاعة بتستحق الاحترام يا أبو الجود.

قال أبو الجود: إنت غلطان يا أبو مراد. أنا بعمري ما كنت شجاع. شجاعتي هاي بتشبه شجاعة الغريق اللي بيوصل لقناعة بأنه بعد شوي بدهم يختموا له جواز سفره الدنيوي ويغادر بطريقة.. بطريقة الـ.. أيش بتسموا الروحة بلا رجعة بالإنكليزي؟

قال أبو زاهر: قصدك (One way)؟

قال: أي نعم، وان واي. المهم يا أبو مراد إنته بتشوف الغريق عم يخبط بإيديه ورجليه، وعم يبذل محاولة أخيرة حتى يوصل للشاطئ، وبتقول عنه "شجاع".. بينما هوي بيكون داخل بستين حيط. إنتوا بتعرفوا قصة ابن بلدنا أبو عَلّال لما كان قاعد في مضافة الآغا، وسمع الحاضرين عم يحكوا عن إشارة المرور اللي ركبتها إدارة المرور عند مفارق الطرق؟

قال أبو محمد: أنا من ناحيتي ما سمعت فيها. وبظن الشباب كمان ما بيعرفوها. تفضل احكي لنا.


قال أبو الجود: أبو علال زلمة غشيم، حاشاكم، ويمكن إذا بيخسر شوية العقل اللي بقيانة في رأسه بيصير جحش خالص. كان مرة من المرات قاعد في مضافة "أبو برهو آغا"، وانفتحت سيرة إشارات المرور. هوي كان عم يسمع الأحاديث ومو فهمان منها شي، كل اللي فهمه إنه أهل مدينة إدلب مزعوجين من هالإشارات. واحد من الحاضرين قال إني الدولة حطت هالإشارات في إدلب بعدما أفلست، وفكرت شلون بدها تلم شوية مصاري من الناس الدراويش؟

طلع معها إنه يحطوا هاي الإشارات في خلقتنا.. هلق شلون ما مشوا أهل إدلب بيصفّر لهم الشرطي وبيقول: تعالوا ادفعوا مخالفات لأنكم تجاوزتوا الإشارة الحمرا. الشوفير اللي بيتجاوز الإشارة الخضرا ما حدا بيقله شي. ليش؟ ما حدا بيعرف، هني بيكرهوا الإشارة الحمرا والسلام. ولما الشرطي بيكتب بحقك مخالفة لازم تدفع، وإذا ما بتدفع بيحطوا عليك غرامات، وكل يوم والتاني بينط لك الجابي وبيقلك: تْحَكْوَكْ (يعني ادفع).

واحد تاني من الموجودين في مضافة الآغا قال إنه جماعة الدولة في الشام بيبغضوا أهل إدلب، وبدل ما يحطوا هالعواميد الحديدية اللي فيها لمبات ملونة في الشام أو في حلب أو في حمص بعتوا لنا إياها على إدلب. بتتذكروا لما بعتوا لنا طحين جاييهم من الأمم المتحدة؟ نحن عقلنا زغير، ومن زغر عقلنا فرحنا عَ الطحين، وأخدناه ع البيت، وصاروا نسواننا يعجنوه ويخبزوه. يا سيدي طلع من هالطحين خبز مو طيب أبداً، وقت بينخبز بيصير تراميس، شي سميك وشي رقيق، مو متل الطحين تبع الحنطة البياضي اللي بتجينا من الحسكة والرغيف تبعها أبيض ورقيق وبيشهي القلب.

المهم، قبلما يكملوا السهرانين في مضافة أبو برهو آغا حديثهم عن إشارات المرور انْسَلّ أبو علال وطلع، وراح عالبيت، جاب حبل طويل، وربطوا في ديسك التركتور، واستنى لبعد نص الليل وانطلق بالتركتور، عمل جولة على إشارات المرور، وصار يعلقها بالحبل وينترها يوقعها ع الأرض.

تمتمت أم الجود بكلام غير مفهوم. استنتجنا منه أنها تستخف بالمثال الذي ضربه أبو الجود عن الشجاعة، ولكن يبدو أنها خافت من رد فعله فسكتت.

قال كمال: أنا بتوقع إنه أبو الجود راح يقفل القصة بشكل ذكي، متل عادته.

قال أبو الجود: مرت قصة إشارات المرور بسلام. وإدارة المرور والبلدية جمعوا العواميد والأضواء اللي شافوهم واقعين ع الأرض، وما عادوا ركبوا إشارات مرور مكانهم. والشرطة الجنائية جابوا شباب من أصحاب السوابق وعملوا لهم فلقات في الدولاب، على أمل واحد منهم يعترف بجريمة قلع الإشارات، ما وصلوا لنتيجة. وحتى اللي كانوا سهرانين في مضافة الآغا ما عرفوا مين الفاعل، لأنه أبو علال ما خبر حدا بإنه راح يقلع أعمدة الإشارات.

مرة تانية كان صاحبنا أبو علال قاعد في مضافة أبو برهو آغا، وسمع واحد اسمه (أبو فلان) عم يحكي كلام سيئ بحق أبو العلاء المعري.

نط أبو علال وقال لأبو فلان: أنا بعرف المعرة بالشبر. منشان هيك بدي إسألك. هادا أبو العلاء من أي حارة؟ إنته قلي من أي حارة وأنا بدبره.

قال أبو فلان: أبو العلاء مات من زمان. بس هوي رجل مو كويس.

نزل أبو علال رأسه إلى الأسفل وصار يقول بصوت مسموع: أشو بيطلع من هالعلاك؟ إذا كان كويس ولا مو كويس، ومات؟ أيش بيطلع بإيدنا عليه؟

ورفع رأسه وقال لأبو فلان:
- لما الشباب في المرة الماضية حكوا على إشارات المرور، أنا طلعت ولقيتها موجودة، وعملت لها اللازم، أما هادا أبو العلاء إنته نفسك عم تقول ميت. طيب سؤال: ما عنده ولاد؟ يعني لا تواخذني إذا إلك عليه دين منحسن نحصل الدين تبعك من الورثة. أنا بس عطيني العنوان، بروح عالمعرة وبيجيب لك مصرياتك على آخر نكلة.

قال كمال: وقف عندك يا أبو الجود. لما قلت إنه أبو علال بيشبه الجحش كتير ظلمته. قصدي ظلمت الجحش!

قالت السيدة حنان: خلونا نعرف كيف انقفلت هالقصة العجيبة.

قال أبو الجود: الشباب اللي سهرانين بمضافة الآغا تكاتروا على أبو علال وأفهموه إنه أبو العلاء المعري ميت من ألف سنة، وأبو فلان ما حكى عليه لأنه إله عليه دين، إنما لإن أفكار أبو العلاء كانت قاسية شوي، واللي قاهره لأبو فلان إنهم من زمان، شي من خمسين سنة، نظموا مهرجان في المعرة، وعملوا تمثال لهادا المعري.

تاني يوم الشرطة كمشوا أبو علال وهوي عم يحاول يكسر تمثال أبو العلاء في المعرة، وأخدوه عالسجن، وبقي في السجن لوقت مات. وهلق في كتير ناس بيقولوا عنه شجاع! يعني متل شجاعتي أنا تقريباً.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...