كيف تكون انتهازياً بارعاً

18 يوليو 2018
+ الخط -
عندما يجتمع أهلُ الأدب والفن والثقافة، في مكان ما، يصبح من الضروري أن يساعدهم أهلُ الخير على إحضار جمهور من السميعة، وإجلاسهم على الكراسي بوضعية الإصغاء التام، لأن جميعهم تقريباً يحبون الحكي، ويعتبرون الإصغاء نوعاً من الهزيمة والاندحار، وإذا لم يتمكن الخَيِّرُون من تزويدهم بما يكفي من المستمعين فإنهم حينئذ يحتاجون إلى "شرطي سير" ينظم الدور فيما بينهم، وتصبح سهرتهم شبيهة بحَمَّام السوق حينما تنقطع عنه المياه.. وإذا صادف وجود شخص لا يحب الحكي و(الرَغي) سرعان ما يتحول هذا الإنسان إلى (دريئة) للمتحدثين، والكل "يشوط عليه"..

ففي ذات مرة، من الأيام الخوالي، احتدمت جلسة مثقفين في العاصمة دمشق. كان بعض أولئك المثقفين يعيشون في دمشق، وبعضهم الآخر يأتون إلى دمشق لأجل التواصل مع المؤسسات الإعلامية المختلفة ويبيتون فيها عدة ليالٍ.. وكانوا يجلسون في مقهى "الهافانا" بشارع الفردوس، وبينهم واحد انتهازي صغير اسمه "فلان".


وكان هذا الـ "فلان" يهز رأسه موافقاً على أي كلام يقوله أي شخص له عملٌ إداري مهم في إحدى الصحف الحكومية، أو في الإذاعة، أو في التلفزيون، وكان دقيق الملاحظة، إذا وجد الشخص المهم واقعاً في زنقة لا يجد مَنْ يصغي إليه، يتوجه هو إليه بكيانه، ويستمع إلى كلامه حتى النفس الأخير، ثم يقول له:
- كلامك مظبوط 100% والله العظيم، وأنت تعرف أنني صادق، ما قلتَهُ أنت قبل قليل كنت أفكر فيه حرفياً.

ومِنْ بين الأشخاص المهمين الموجودين ضمن الجلسة كان فلان يُجري في ذهنه حسبة سريعة، ومقارنة، ومفاضلة، فتهديه سليقتُه إلى أن "علان العلاني"، مدير الدائرة الثقافية "سين"، سيكون الأكثر فائدة له فيما لو وطد علاقته به، فكان ينتظر حتى تنفض الجلسة، ويغادر الحاضرون المقهى، فيخرج معهم، وفي الشارع يقترب من علان العلاني ويقول له:
- فرصة سعيدة أستاذ. أنا كتير سعيد بمعرفتك. من أين طريقك؟

فيرد عليه الآخر بأنه يسكن في "دمر البلد"، مثلاً، فيقول له (كاذباً):
- سبحان الله على هذه الصدفة العجيبة، أنا أسكن في بلدة قدسيا، يعني طـريقي على طريقـك..
ويرافقه إلى مركز تجمع الباصات، تحت الجسر، ويصعدان معاً، ويدفع هو ثمن التذكرتين، ويجلس بجواره في الطريق الذي يستغرق حوالي 45 دقيقة، وهو يستوضحه ويستزيده حول الفكرة التي التي طرحها في جلسة المقهى، وأوهمه بأنها مهمة جداً، ويبقى محافظاً على دور المستمع، المؤيد، الموافق على كل ما يرد في حديثه، ويؤكد على أنه، هو، لديه نفس التفكير والاعتقاد، الكعب على الكعب والحافر على الحافر.

من أعاجيب الثقافة في سورية أن هذا الرجل، الذي لا يمتلك أية موهبة سوى موهبة النفاق، أصبح، خلال سنوات من دخوله الوسط الأدبي، من أكثر الكتاب الرائجين في البلد!
دلالات
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...